العامل الخارجي في الساحة الفلسطينية
من المعروف في التجربة الفلسطينية أن الوضع الداخلي الفلسطيني مفتوح على طيف واسع من التأثيرات الخارجية التي لها فعل حاسم داخل الساحة الفلسطينية، أكثر من أي ساحة سياسية أخرى. ولا تأتي هذه التأثيرات من اتجاه أو طرف واحد، بل من عدة اتجاهات تسعى لانجاز أهداف متناقضة، حتى ليبدو الوضع الفلسطيني في بعض الأحيان تجسيداً لصراعات الآخرين ولحروبهم فيها، رغم ادعاء المتصارعين الإقليميين على الأقل، بمركزية القضية الفلسطينية. ليست التأثيرات العربية والإقليمية الوحيدة في الساحة الفلسطينية، فالتأثيرات الدولية ليست أقل مركزية على الوضع الداخلي الفلسطيني، خاصة بعد إقامة السلطة الفلسطينية باتفاقات مع إسرائيل وبرعاية من الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة، وهو ما جعل السلطة ترتهن في حياتها الاقتصادية للتمويل الدولي عبر الدول المانحة.
كل هذه عوامل معروفة ومفهومة، بحكم انكشاف الساحة الفلسطينية لهذه التأثيرات، بحيث يمكن القول أن الوضع الداخلي الفلسطيني، هو ملكية عامة للتأثيرات الإقليمية والدولية. تاريخياً، هكذا كان الوضع الفلسطيني رغم تراجع ظهور هذه التأثيرات في بعض المراحل، أو بالأصح تحولها إلى تأثيرات خفية، أو فجاجتها في مراحل أخرى. ومن المعروف أيضاً أن هناك أنظمة عربية أقامت منظمات فلسطينية كامتداد سياسي معلن وفج لها في الساحة الفلسطينية حتى يكون تأثيرها مباشر وأن تطل مباشرة على المطبخ السياسي الفلسطيني وتشارك فيه. أُقيمت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار عربي في العام 1964، وعندما تمت فلسطنتها، من خلال دخول الفصائل المسلحة لها في العام 1968، تم تعريب الفصائل من خلال دخول منظمة التحرير إلى الإطار الرسمي العربي. لأن هذا الدخول لم يعنِ تراجع التأثيرات الإقليمية والدولية في منظمة التحرير، بل على العكس كانت التأثيرات على حركة وطنية مسلحة لاجئة في أرض الآخرين مسألة محسومة، حتى لو سمعنا الكثير من الكلام الفلسطيني عن المعارك التي تم خوضها من أجل حماية «القرار الوطني الفلسطيني المستقل».
بالطبع، لا يمكن نكران أن الفلسطينيين خاضوا صراعات دامية من أجل هذا «القرار المستقل»، بالأصح خاضوا معارك من أجل عدم الارتهان أو الإلحاق النهائي بطرف عربي دون آخر، وتحويل القضية الفلسطينية إلى ورقة بيد هذا الطرف أو ذاك، وكان هناك طلب عالي على الورقة الفلسطينية في كثير من الأوقات المنصرمة. ولكن عند خوض هذه المعارك، كان الفلسطينيون يستعينون بأطراف عربية أخرى من أجل الموازنة، وهو ما يمكن اعتباره إقراراً بالتأثير الخارجي الحاسم في الوضع الداخلي الفلسطيني، وكان الكلام الفلسطيني عن اللعب على التناقضات العربية، أو استثمار هذه التناقضات من أجل التملص من اصطفافات فلسطينية مع طرف عربي أو آخر، ينجح بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى كان هذا التناقض يطبق حتى على الفلسطينيين أنفسهم الذين ادعوا المهارة في اللعب على هذه التناقضات، وأبرز مثال على ذلك، الاحتلال العراقي للكويت.
حتى أن التحولات السياسية التي شهدتها منظمة التحرير في عقد السبعينات، من شعار «تحرير كامل التراب الفلسطيني» وصولاً إلى «الدولة الفلسطينية المستقلة» في الضفة الغربية وقطاع غزة، كانت تحولات بفعل التكيّف مع المتطلبات الإقليمية والدولية التي تولدت عن كل من هزيمة العام 1967 وحرب العام 1973، وقد جاء الاعتراف العربي بأن منظمة التحرير «الممثل الشرعي والوحيد» بعد إقرار منظمة التحرير بهذه التحولات التي جعلت أي حل يقوم على أساس تلك المعطيات وقاعدة الحل قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ذلك إعادة تكيّف المنظمة مع شروط التوافق الدولي للحل في المنطقة، والذي بات محسوماً أنه يقوم على نتائج حرب العام 1967 كحل نهائي للقضية الفلسطينية. حالياً، الوضع الفلسطيني ليس في أحسن حالاته، إن الاستقطاب الثنائي على الساحة الفلسطينية، جعل إمكانية التملص من التأثيرات الخارجية أقل مما كان في السابق.
فقد أجاد الرئيس الراحل ياسر عرفات فن اللعب على التناقضات العربية - العربية للتملص من التأثيرات الخارجية، على محدودية القدرة على ذلك. ولكن يبدو اليوم أن إمكانية تكرار هذه اللعبة، أقل بكثير، رغم أن الوضع اليوم في المنطقة يعطي هذه الإمكانية بسبب انشغالات دول المنطقة بثورات الربيع العربي ودوله، لكن انشغال يبدو بعيداً عن القضية الفلسطينية ومهموماً بالقضايا الوطنية المحلية. رغم هذا الهامش ورغم مسار المصالحة الجارية بين قطبي الساحة الفلسطينية، فإن ذلك لم يردم الخندق العميق بين الطرفين، وتبدو إمكانية التحرك المستقل لكلا الطرفين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية حولها الكثير من الشكوك.
في هذا الإطار، نقول أن المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية تحتاج إلى توافقات أو موافقات من خارج الساحة الفلسطينية حتى تنجح، وإذا كان الوضع الضبابي اليوم يعطي المساحة للتحرك الفلسطيني ـ الفلسطيني باتجاه المصالحة، فإن الاعتقاد بأن الفلسطينيين يملكون ترتيب ساحتهم الداخلية كما يرغبون، هو اعتقاد سيأتي الواقع ليكذبه. الفلسطينيون وحدهم غير قادرين على حل مشكلاتهم، وعلى الآخرين المساهمة في حل هذه المشكلات. باختصار ليس هناك وضع داخلي فلسطيني، إنه ملعب اللاعبون الخارجيون أكثر منه ملعب القوى الفلسطينية الداخلية. سننتظر الأيام القادمة لتقول كلمتها، هل يستطيع الفلسطينيون أن يحملوا وحدهم مصالحتهم ويمضون بها إلى النهاية؟ أتمنى ذلك