نوني المخبولة
كأنه خريف قناة "العربية" وليس ربيعها، الذي جعلها تقدم للملايين السحنة السمجة، تلو الأخرى، على شاشتها المرموقة. أو كأن المعتوهة ناهد، أبنة الشهيد الفذ مصطفى حافظ، مؤسس مجموعات الفدائيين الأولى بعد النكبة، انطلاقاً من غزة؛ لديها ما تقول سوى الجُمل الخمس، عن التطرف في الدين والسلام والتسامح والترجرج بين اللا دين والكنيسة، وهي جُمل تأتي على لسانها سخيفة ومقتضبة. ولو أن جليساً لنوني، لمدة أطول مما تتيحه القناة لبرنامج "نقطة نظام" طلب منها شرحاً، سيكتشف أنه بصدد حالة من التشتت الذهني والانفصام والسطحية الفجة! تقمصت نوني عند النطق بعباراتها، طابع الغرق الكاذب في الإنجليزية بلكنة أمريكية، لكي توحي بأن العربية تصعب عليها. علماً بأن المصري، ولو كان يهودياً عاش أغلب عمره في إسرائيل، أو مسلما ولد وترعرع في الصين، لا يغادر مصريته اللغوية أبداً، وعلماً كذلك بأن الإنجليزية لا تغمر الناطقين الأمريكيين بها، من حيث هي لغة بليغة، وقلما تجد متخرجاً من كلية علمية أمريكية، يستطيع ان يكتب رسالة بلغة إنجليزية رصينة. لكنني شخصياً شعرت بالارتياح لمشاهدة نوني للمرة الأولى على التلفزة، وذلك لسبب بسيط، وهو أن المقابلة، أوضحت لي حقيقة أمر هذه المخلوقة من الناحية الذهنية.
فعندما زرت أمها السيدة الفاضلة دُريّة، في ضاحية المعادي أنا وعبد القادر ياسين؛ قابلت مع أرملة الشهيد، واحداً من أبناء شقيقتها ميْ. ولشدة حزن الأم، على الانحراف الفضائحي للبنت الكبرى، ولحزن الشاب وحرجه بسبب "خيانة" خالته، ظننتُ أن الأمر يتعلق بفيلسوفة مميزة، قارنت بين الموضوعات السياسية والاجتماعية والإنثروبولوجية، فأخذها ثقل العلم الى الجنون، لتفلت بعدئذٍ، الى معسكر ليبرالي أمريكي، أوصلها الى إسرائيل. وربما عزز ذلك الاعتقاد عندي، ما روته لي السيدة دريّة، عن رعاية الزعيم المناضل جمال عبد الناصر للأسرة، منذ أن استشهد المقدم مصطفي حافظ عاشق فلسطين، في الثالث عشر من تموز (يوليو) 1956.
فقد رغبت البنت، الالتحاق بالجامعة الأمريكية في القاهرة، فأمر الرئيس عبد الناصر بتغطية رسوم دراستها. كان مصطفى حافظ، يسكن وجدان ناصر، الذي اعتبره ذا خبرة كبيرة في الشأن الفلسطيني. فقد بدأ مصطفى عمله ضابطاً في الإدارة العسكرية المصرية في غزة، في العام 48 بعد أن فر بجرأة إعجازية، من معسكر الاعتقال الإسرائيلي أثناء الحرب. وسرعان ما نُقل حافظ الى منطقة رفح الحدودية الحساسة آنذاك، ليكون حاكماً لها، ثم بعد نقله الى منطقة البحر الأحمر، ألح في العودة الى قطاع غزة وكان له ذلك. وما أن وصل، حتى بدأ بتدريب الفدائيين طامحاً الى تأسيس جيش فلسطيني من المغاوير. فقد كان ضابطاً من سلاح الفرسان آنذاك. شكّل أولى المجموعات من العارفين بتضاريس الأرض ومن أبناء القرى القريبة. وجاءت انطلاقة هؤلاء المسلحة بقيادته، رداً على الاعتداءات الوحشية على القطاع في اليوم الأخير من شباط (فبراير) 1954 وعلى خان يونس في آب (أغسطس) 1955.
هذه البنت، نوني، كانت في الثامنة من عمرها عندما استشهد أبوها. وفي مكبرها الرديء، عللت موت أبيها بـخطأ "الثقافة الإسلامية" دون أن تشرح كيف ولماذا؟. ربما هي تقصد أن هذه الثقافة هي التي جعلت مصطفى حافظ أشد إصراراً على النضال، ويحس بالأمة وباستلاب الحقوق، وبالاعتداء على المنتهبة أرضهم من إخوته الفلسطينين. هي لا تعرف شيئاً عن فكرة الخيانة، التي استغلها العدو، لكي ينال من مصطفى حافظ وهو الغامض بالنسبة لإسرائيل. فلم ينجحوا في الحصول على صورة له، وسمعوا الكثير عن شعبيته فلسطينياً، وعن شهامته ودماثة خلقه، وقوة شخصيته! أرسل لهم مصطفى حافظ، واحداً من رجاله، من عائلة الطلالقة، لكي يوهمهم أنه يرغب في أن يكون جاسوساً معهم. تظاهروا بأنهم استوعبوا أمره. وكلفه حافظ بعدة مهمات، بدت ناجحة لأن اليهود دسوا فيها عناصر النجاح متعمدين، قاصدين اصطياد مصطفى حافظ نفسه. بدأ الأخير يطمئن الى حُسن السياق، وأظهر اليهود اطمئناناً الى طلالقة، وهذا بدوره أحس بأن أموره مستقرة عند "أولاد العم".
في الرحلة السادسة، رآهم يتصنعون القلق الكبير، وقالوا له إن لديهم عميلاً مهماً في غزة، ويعتقدون أن شيفرا الاتصال معه انكشفت، ويريدون إرسال شيفرا جديدة له، على وجه السرعة، ولا يدرون ما إذا كان هو يصلح لأداء هذه المهمة الحساسة أم لا. وعندما أكد وأقسم وأزبد، أنه أهلٌ لها، ازدادوا يقيناً بأنه يعمل مع مصطفى حافظ، فمضوا سريعاً في الخطة. زعموا أن عميلهم، هو قائد شرطة غزة نفسه، لطفي العكاوي، وأنه سيحمل اليه مغلفاً بداخله كتاب فيه الشيفرا الجديدة، على أن يسلمه له فوراً. كانوا متأكدين، أن أهمية الصيد المزعوم، ستجعل الطلالقة يتجه فوراً الى مصطفى حافظ دون سواه من ضباط التشغيل.
ولكي لا يقوم الطلالقة بدافع الفضول بفض المغلف لرؤية الكتاب، جاء أحدهم أمامه، بغلاف آخر فيه كتاب عادي أخرجه وأعاده الى المغلف، ثم ذهب وقال إنه سيغلقه بالصمغ. عاد وسلم طلالقة المغلف الآخر، المغلق والملغّم. أحس هذا الأخير بأن خاتمة المهام جاءت بالصيد الدسم. أوصلوه الى أقرب نقطة من الحدود، فتوجه فوراً الى مصطفى حافظ وروى له الخطوط العريضة للموضوع. دخل مصطفى حافظ في لحظات ألم عاطفي وملأه الإحساس بخيبة الأمل في لطفي العكاوي. فهو يدافع عن لطفي، لأن صرامته وانضباطيته ومثابرته جعلته عرضة لأقاويل جزافية عن شبهة الإتجار في المخدرات. فض مصطفى حافظ المغلف بسرعه وشدة، ومعه الطلالقة وضابط آخر، فكان الانفجار ووقعت الإصابات البليغة. نُقل المصابون الى مشفى تل الزهور، فأسلم مصطفى حافظ الروح مع بزوغ فجر اليوم التالي، وفقد الطلالقة بصره. أما الضابط الآخر، فأقعد مدى الحياة! نوني المخبولة، من خلال ظهورها على شاشة "العربية" وفي أجوبتها عن الأسئلة الضارية التي وجهها اليها حسن معوّض (وله التقدير) أراحتني لأن الأمر بات يتعلق بإمرأة "لادعة" أسلاك مخُيخها ولا ثقافة لديها ولا ما يحزنون.
فات مقدم البرنامج، أن يقتصر الأسئلة على السياق الساخر، كأن يسألها بأي دين تتمنى الصلاة عليها في يوم تشييعها، وفي أي أرض تُدفن وما هو رأيها في يوم الحشر مع أبيها. لكن نوني أعادت الى ذاكرتي، الرواية التي سمعتها من أمها أرملة الشهيد، السيدة دريّة، وقد مرّ أكثر من نصف القرن على هذه الفاضلة، وهي تعيدها وتكررها وتؤنس بها وحدتها، وتتغنى بطيبة الفلسطينيين، وبمحبتهم لزوجها، وللعروبة، ولمصر المحروسة ولجمال عبد الناصر!