على خارطة سورية:أسماء ومفارقات
عندما يحط الناظرون لخارطة سورية المعذبة، أعينهم على أسماء البلدات والقرى، في واحدة من مواطىء أقدام الشبيحة النظاميين ورفاقهم من الشبيحة أرباب السوابق الدامية؛ سيلاحظون أن أسماء البلدات والقرى، لا تقل غرابة عن كثير من أسماء العائلات الثكلى، ألتي تُكتب بخط اليد، على قطع من الورق المقوّى، للتعريف بالضحايا الذين في الأكفان. البعض القليل من تلك الأسماء يستوي، ويدل على معاني مفهومة. لكن بعضها الآخر، احتار في أمره الباحثون المستشرقون، وذهب عدد منهم الى تفسير ما تيسر لهم من ألفاظها ومن حكايات الروابي والوديان الخضراء.
ففي ريف حمص، هناك قرى تقسيس والرستن وعقيربات وخنيفس ومغيزيل، والأعور وعُكش، وشنشار، وتل شنان وأم شرشوح والفرقلس وسواها. وفي ريف حماة، ثمة قرى: السعن، وأبو حكفة، وتيزين ومعر شحور ومحردة وكفر بهم والكافات ومورك وخان شيخون وغيرها. وعلى الرغم من العيش الجميل، الذي تأتى للناس، في كنف الأرض الطيبة كلما ابتعد الشيطان؛ فإن تعقيدات الأسماء دلت على ظروف خاصة، تتوغل في أعماق التاريخ، وتضاهي تعقيدات ما تزال تنتج حال استعصاء السلطة على الانهيار العاجل، في الصراع الراهن، في داخل الموزاييك السوري. لم تكف وضعية الاستبداد الشامل الذي يعاني منه كل الشعب، لتحشيد مكونات المجتمع كلها، لا سيما الطائفة العلوية، مع الثورة وضد الحكم الفاسد المستبد!
* * *
حول سورية، أجمع المستشرقون على ما سجله الباحث الفرنسي Jaques Weuleresse جاك ويليريس بأن أرض هذا البلد، كانت على مر التاريخ، ملجأ للجماعات المضطهدة سياسياً أو مذهبياً، الهاربة من بلدان مجاورة. وقد تعرضت سورية لهجرات سكانية متتالية، عربية وتركية وكردية وغيرها، وتحولت الى مركز للتعددية العشائرية والعرقية. ويبدو أن تلك الجماعات جاءت بألفاظها ولغاتها وتراثها الشعبي، فأطلقت الأسماء على الأماكن المأهولة، أو طورت أسماء قديمة رومانية أو بيزنطية! المهم، عندما غلب الطابع الديني والمذهبي على الصراعات التي كانت تغذيها الإمبراطوريات الاستعمارية، بطريقة فرّق تسُد، في الإطار الجغرافي السوري؛ ساعدت التضاريس ـ حسب الباحث ـ من جبال ووديان، على الانعزال وإزكاء النعرات المحلية والولاءات الطائفية، منعاً لتعاظم قوة الرابط الوطني أو القومي. وقدم ويليريس، المتوفي في العام 1946 وصفاً مدهشاً في راهنيتّه: "هناك حساسية جماعية مَرَضيّة، تجعل أي تحرك لجماعة مجاورة، يبدو وكأنه خطر محقق أو تحدٍ كارثي وشيك لهذه الجماعة، فتقوم باستجماع ذاتها لمواجهة أي هجوم أو تعدٍ يُرتكب ضد أي من أعضائها"! هذا الوصف، كان في الحقبة الاستعمارية. وتكمن إحدى المفارقات المحزنة، في أن دعاة القومية، من العسكريين الذين انقضّوا على حزب البعث، ووصلوا باسمه الى السلطة، واتسم خطابهم بالثورية القومية؛ هم الذين استمروا في إثارة النعرات الطائفية، منذ مرحلة الفرز والتكتيل الطائفي والعشائري في الجيش، بعد انقلاب 8 آذار (مارس) 1963.
وإن كانت مفاعيل الاستعمار للتفرقة بين الطوائف، مستترة وشبيهة بالدسائس، ولا يستغربها السوريون من مستعمر؛ فقد بدا أن الذين لم يتواضعوا ليتحدثوا عن رابطة وطنية مصغرة وحسب، أي في حدود سورية، فزعموا أنهم بكرم أخلاقهم وسعة صدورهم، سوف يستوعبون الوطن العربي من المحيط الى الخليج؛ هم الذين أججوا النعرات الطائفية بين سكان الروابي والوديان، ولم يفلحوا على مر أكثر من نصف القرن، في تأصيل الرابطة الوطنية التي تقوم عليها مصالح السوريين جميعاً.
فمنذ أن خاض الضباط العلويون، الصراع من أجل الاستحواذ على السلطة بعد انقلاب 8 آذار 1963 وبينما استمر هؤلاء في تحميل الاستعمار أوزار الفتن الطائفية، بعد أن حققت سورية استقلالها الوطني؛ اعتمدوا الطائفية والعشائرية، منهجاً لكسب الولاءات توطئة للانقضاض على الحكم في شباط (فبراير) 1966، ثم انقضوا على بعضهم البعض، في "تصحيحية" حافظ الأسد، الذي فتك بالغالبية العظمى من الشعب، وسد الآفاق في وجه الأجيال، ثم كاد أخوه أن ينقض عليه، قبل أن يمسك بالبلاد والعباد، بقبضة أمنية بالغة القسوة. وليته بعد أن استراح وامتلك السلطة ثم ورثّها لإبنه، كان هو، ومن ثم ابنه، بخطابيهما القومجي، قادريْن وطنياً، على استيعاب خنيفس والعُكش وشنشار في ريف حمص، قبل أن يتحدثا عن استيعاب الوطن العربي، وتحديات المجابهة مع إسرائيل، أو تحديات التنمية، والديموقراطية في أضيق معانيها.
أثاروا النعرة الطائفية، وضللوا العلويين وأوهموا البسطاء منهم، أن بقاءهم كمواطنين، رهن ببقاء النظام. لذا عندما أشتد طلب الحرية، في قرية الحولة، على حدود جبالهم، ظن بعض الجيران، أن الصيحة عليهم، وأن الخطر وشيك، فتحرك بعض القابعين المنتمين لعهود ما قبل الاستعمار الوحشي، من قرى العلويين المجاورة: قرمص والوعر وخربة السودا (لاحظوا الأسماء) ليذبحوا الأطفال والنساء، على النحو الذي تأنفه نفوس التتار الأقدمين!
* * *
من يتصفح الموقع الرسمي للطائفة العلوية alawiyoun.net يلاحظ أن عناوينه كلها تتركز حول مظلومية الطائفة، وحقد الآخرين، وعن كراهية أهل السُنة لهم. وهذه هي المدرسة الفقهية النصيرية، التي رعاها النظام. ومن اللافت أن من بين خمس فتاوى إسلامية في شأن فرقتهم، بدأت بإبن تيمية الذي جزم بالتأثيم، واقتدى به اثنان عثمانيان، وواحد من اللاذقية؛ كان القائد الوطني الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، هو الذي أمدهم بصيغة قبولهم إخواناً في الملّة على قاعدة المشتركات في أصول الدين، والتناصر ووجوب التعاون على البر والتقوى. وذلك على نحو ما يقتبس موقعهم الرسمي، من تصريح المفتي بالفتوى لصحيفة دمشقية، في تاريخ واضح الدلالة، وهو أيام أحداث ثورة 1936. فالفلسطيني يجمع ولا يُفرّق، وكم تمنينا أن يجمعوا ولا يفرقون أو ـ على الأقل ـ لا يذبحون!