نتنياهو في قبرص: "نجمة" الهلال الخصيب تنقلب على "مكاريوس"!
أربعة عوامل أساسية شكلت الخلفية الضرورية للزيارة التاريخية القصيرة التي قام بها مؤخراً رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للعاصمة القبرصية نيقوسيا، فالتوتر ما زال قائماً بين أنقرة وتل أبيب، ما يجعل التقرب من نيقوسيا أمراً مجدياً لإسرائيل، كما أن الدولة العبرية تواجه حصاراً سياسياً على الصعيد الدولي بسبب تحميلها مسؤولية انهيار المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، وانطلاق إسرائيل لتعزيز قدراتها في مجال العلاقات الدولية، حتى لو من قبرص، يخفف بدرجة ما من هذا الحصار، وفي ضوء تنامي العلاقات الإسرائيلية ـ اليونانية، فإن العلاقة مع قبرص تبدو أكثر سهولة بالنظر إلى طبيعة العلاقات، وتأثير أثينا على نيقوسيا سيفيد كثيراً في نسج علاقات أوطد مع قبرص، إلاّ أن العامل الأكثر أهمية في هذا السياق يتعلق بالاكتشافات الجديدة لمصادر الطاقة النفطية والغازية شرق المتوسط، والخلافات التي نشأت حول الحدود البحرية بين كل من تركيا وإسرائيل وقبرص وفلسطين ولبنان بهذا الشأن، وهدف الزيارة في هذا السياق يتحدد بعزل لبنان وتركيا بتفاهمات بين نيقوسيا وتل أبيب تتجاوز الجوانب الاقتصادية إلى الأمنية التي تعتبر أكثر أهمية في هذا المجال.
هذه الأرضية كانت كافية، ليتطلع نتنياهو إلى زيارة نيقوسيا متأكداً من نجاح مساعيه في إيجاد موطئ قدم إسرائيلية لدى قبرص التي ظلت لسنوات طويلة نصيرة للحق الفلسطيني، وهو بهذه الخطوة يدمر كل ما أنجزه عهد مكاريوس ـ عبد الناصر، من علاقات وطيدة بين قبرص والعالم العربي، وكأنه بذلك يعيد بناء "الهلال الخصيب" الذي تشكل نجمته التي تتوسطه، ولكن هذه المرة، ليس لخدمة النظام الكولونيالي التقليدي ولكن، لكي يشكل هذا الهلال، عنصراً أساسياً من عناصر الشرق الأوسط "المتغير" الذي تحدثت عنه أوساط سياسية وفكرية إسرائيلية كبديل عن فكرة الشرق الأوسط الجديد الذي انهار على إيقاع "الربيع العربي".
ويستفيد نتنياهو من دون شك من تزايد النفوذ اليهودي المتجدد في قبرص والذي بات يشكل أحد أعمدة الاقتصاد القبرصي، والذي جعل من هذه الجزيرة تعتمد على إسرائيل في تجارتها البينية بحيث أصبحت إسرائيل خامس دولة كمصدر تجاري للجزيرة الشرق أوسطية، رغم أنها عضو في الاتحاد الأوروبي، إلاّ أن إسرائيل مع ذلك، فاقت دول الاتحاد الأوروبي في تعزيز تجارتها مع قبرص، ونشطت الغرفة التجارية الإسرائيلية في استثمار مبالغ ضخمة في مجالات السياحة والعقارات بشكل أساسي، وباتت "تحتل" الساحل الشرقي للجزيرة، خاصة في مدينة ليماسول، الميناء التجاري والعاصمة التجارية لجزيرة قبرص، وذلك من خلال استثمارات يهودية روسية تحديداً، مما يجعل من هذه الجزيرة، إضافة إلى موقعها، المكان المناسب والملائم لغسيل أموال اليهود الروس والإسرائيليين على حد سواء، خاصة أن قبرص وأنظمتها وتشريعاتها البنكية والمالية وما بها من ثغرات "متعمدة" تساعد على إجراء غسيل الأموال بشكل أكثر سهولة من عواصم أخرى في العالم.
وتنظر نيقوسيا إلى التاريخ القريب بحذر شديد، فقبل التوترات الإسرائيلية ـ التركية، أخذت الدولة العبرية في احتلال قبرص التركية، اقتصادياً، إذ استثمرت في قطاعات السياحة والقطارات، واشترى مستثمرون يهود روس، أيضاً، أراضي واسعة، تعود ملكيتها في الأصل إلى اللاجئين القبارصة اليونانيين الذين لجأوا إلى قبرص اليونانية بعد الحرب، وانتقال هذه الاستثمارات تدريجياً إلى قبرص اليونانية، لا شك في أنه يشكل هدفاً مطلوباً وضرورياً لنيقوسيا التي تجد نفسها في مواجهة مع شقيقتها العدوّة في الجانب الآخر من شطري الجزيرة المقسّمة.
والغريب نسبياً، أن تحسن العلاقات الإسرائيلية ـ القبرصية، التي تضررت أكثر إثر زيارة نتنياهو للجزيرة، تأتي في ظل وجود أول رئيس شيوعي للجزيرة، ديمتريس كريستوفياس، وهو، أيضاً، الرئيس الشيوعي الوحيد في المنظومة الأوروبية كلها، هذه الغرابة بدأت عندما خضعت قبرص لمتطلبات إسرائيل بشأن أسطول الحرية، ومنعت السفن من الانطلاق إلى غزة عبر موانئها، إلاّ أن الانهيارات الاقتصادية لدى عدد من دول الاتحاد الأوروبي، ربما أملت على الزعيم الشيوعي القبرصي اتخاذ خطوات وقائية، لدعم اقتصاد بلاده من خلال الاستثمارات اليهودية الروسية، والتعاون مع إسرائيل في مجال استخراج النفط والغاز من المواقع المكتشفة في مياه المتوسط الذي يفصل بينهما بحدود مائة ميل فقط.
وعلى المستوى العربي، فإن لبنان هو أكثر المتضررين المباشرين من تعزيز العلاقات الإسرائيلية ـ القبرصية، وحسب معلومات أدلى بها رئيس لجنة الطاقة في البرلمان اللبناني محمد قباني معقباً على زيارة نتنياهو لنيقوسيا، أشار إلى أن المفاوضات بين البلدين وصلت إلى ذروتها، بحيث تقوم إسرائيل بنشر طائرات حربية على الجزيرة، بحجة حماية آبار النفط والغاز من تركيا، غير أن هذا الأمر يشكل تهديداً اقتصادياً وأمنياً لمصالح لبنان في "المتوسط"، ولعلّ قباني كان يشير إلى نتائج الزيارتين التي قام بهما كل من الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس ووزير الخارجية ليبرمان على فترات متوالية إلى العاصمة القبرصية، وكانت الجوانب الأمنية على أجندة هذه الزيارات على خلفية حماية منشآت النفط والغاز المكتشفين شرق المتوسط، وعلى ضوء تزايد الخلافات الإسرائيلية على أكثر من صعيد!
وبالفعل، فإن زيارة نتنياهو إلى قبرص قد أفضت إلى التوقيع مع نظيره القبرصي على عدة اتفاقيات أهمها تلك التي تقضي باستخدام القوات الجوية والبحرية الإسرائيلية، الأجواء والمياه الإقليمية لشرق الجزيرة القبرصية، والتدخل في حال حصول أي اعتداء أو حادث على حفّارات النفط والغاز الخاصة بالتنقيب في تلك المنطقة، إلاّ أن وسائل الإعلام القبرصية أشارت إلى أن عدة أمور تم الاتفاق عليها لم تطرح للعلن، خاصة في مجال الأمن وتبادل المعلومات. ويلاحظ في هذا السياق، أن وسائل الإعلام الإسرائيلية لم تتعاط مع هذه الزيارة مقارنة مع الأهمية المناطة بها، ربما بسبب قيود أمنية وضعتها السلطات الإسرائيلية قيدت من خلالها نشر المعلومات المتعلقة بهذه الزيارة.
وهكذا، فإن هذه الزيارة فتحت آفاقاً إسرائيلية جديدة لزيادة التوتر مع حليف، الأمس، تركيا، وتحولت قبرص، نجمة الهلال الخصيب إلى وتر قوس الأزمات في زمن "الربيع العربي" وتراجع دور مصر الإقليمي في المنطقة، قبرص التي لم تعترف بالدولة العبرية إلاّ في عام 1994، والصديق الدائم للقضايا العربية عموماً والقضية الفلسطينية بشكل خاص، باتت إحدى حليفات إسرائيل، بتغطية من "المصالح النفطية" بينما الأمر يتعدى هذه المصالح إلى ترتيبات جديدة تشمل المنطقة برمتها تحاول إسرائيل من خلالها تطويق تداعيات "الربيع العربي" واستعداداً لأي مواجهات سياسية وأمنية محتملة.
وهذه الزيارة، تعدّ نجاحاً إضافياً لحكومة نتنياهو، التي كانت قد نجحت قبل ذلك في إقامة علاقات استراتيجية مع اليونان ورومانيا وبلغاريا، رغم كل ما يقال عن حصار دولي تعاني منه الدولة العبرية في ظل انكفاء عربي على الرغم من "ربيع" لم تنته أيامه بعد!.