الفيلم الوثائقي ‘شباب اليرموك’: عن لحظات اليأس التي باتت أمنية

بقلم: صادق أبو حامد
بصوت وألحان ريم كيلاني، وكلمات الشاعر إياد حياتلة، تحملنا أغنية ‘هنا اليرموك’ فوق قطار عابر في فرنسا، لتتركنا نحلق مع سرب حمام في سماء مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، قبل أن تضعنا في غرفة بسيطة حيث تجلس مجموعة من الشباب، يلعبون الورق بجو من المرح، في جلسة مسائية هانئة.. إنهم ‘شباب اليرموك’.
تتحرك عدسة المخرج الفرنسي أكسل سيلفاتوري سينز بين أول المخيم وحي التقدم الملحق بآخره. هناك حيث تكتظ الأبنية بساطاً رمادياً توشحه الصحون اللاقطة وخزانات المياه الحمراء. بين غرفتين فوق سطحين يروي أكسل حكاية الجيل الثالث من لاجئي نكبة فلسطين 1948، حكاية الشباب الباحث عن مساحة صغير مستقلة ولو فوق سطح بيت. يؤسس سيلفاتوري سينز لحكايته بعدسة تراقب المخيم من الأعلى لتلتقط صور أبنية ‘التقدم’ مكشوفة العظام، أبنية متراصة لا تترك فسحة إلا لبعض أكوام الأوساخ، وسط عالم من ضوضاء الجيران، والدراجات النارية، وأصوات الأذان.
مجموعة واحدة.. بخمسة مصائر
ما بين تشرين الأول/اكتوبر 2009 وكانون الأول/ديسمبر 2011 تتابع كاميرا سيلفاتوري سينز تقلبات المصير لمجموعة من شباب المخيم: حسان، علاء، سامر، تسنيم، وعد. مصير يبدو مبهماً في واقع يضيق بالأحلام، ويجعل طاقة الشباب مكبلة بتفاصيل العيش البسيط، بالخدمة العسكرية الإلزامية التي تبدو أكبر عائق في وجه الشباب في سوريا، وسؤال الهجرة بحثاً عن مكان يتيح لك على الأقل أن تختبر إمكانياتك بدلاً من تقوقعها في الظل بانتظار التغيير الذي لا يأتي.
‘المكان خارج سوريا هو الأفضل، لكن إذا لم تستطع أن تغادر فماذا عليك أن تفعل؟’. هذا كان سؤال حسان حسان عاشق المخيم الذي كان يتمنى لو تسمح له الظروف بإنجاز عمل مسرحي سنوياً في المخيم، ولجمهور المخيم، كي يقلع نهائياً عن فكرة الهجرة. لكن حسان لا يجد مفراً من الالتحاق بالخدمة العسكرية، حسان الذي يصف الجيوش بالتافهة حين سؤل عن خدمته بعد إجازته الأولى، كان الأقدر على التفاؤل رغم اعترافه بأن الواقع يمعن في إحباطه. وكان برفقة حبيبته وعد، يبدو واثقاً من قدرته على الإنجاز، وعلى بناء حياة أفضل، إن لم يكن له، فلأولاده على الأقل.
شبح الجيش ذاته، كان يغلّف أيام علاء بالكآبة، ويضخ فيها طاقة من اللامبالاة واليأس لا تغادر عينيه في لحظات حزنه، أو سخريته، أو حتى فرحه باستلام جواز السفر. يقفز علاء من القارب، يودع أهله الذين كتموا أسئلتهم، وعتبهم، طالما أن السفر هو المنفذ الوحيد خارج اللاجدوى. يقفز علاء بعيداً، وبعيداً جداً، إلى تشيلي ليبدأ دراسة السينما، ويخطو خطواته الأولى في طريق طبيعي، ليس سهلاً ولا وردياً، لكنه يتسع للتجربة وللنجاح. يقفز علاء تاركاً أصدقاءه يرتبون مشاريعهم بدورهم. المشاريع التي سبتقى حبيسة الخيال.
مشروع سامر يتعرقل ثم يفشل بعد أشهر من محاولات تأجيل الخدمة العسكرية، والسفر إلى أوروبا للالتحاق بحبيبته. يحاول سامر بروح متحفزة، وبطاقة يستمدها من أمل يلوح له من بلاد الشمال، لكن الطرق تغلق إلا عن ممر وحيد إلى مستنقع الجيش، المستنقع الذي لا بد من عبوره كي يتسع المستقبل لمشاريع الحياة.
في مقارعة الظروف، تبدو وعد وتسنيم أكثر توازناً. ليست كثيرة حوارات وعد في الفيلم. لكنها وهي المستندة إلى قاعدتين ثابتتين هما الحب والدراسة الجامعية، تتعامل مع الأيام، وإن خالطتها المصاعب والهموم، برؤية واضحة، وعين تبصر الهدف. لكن الفتاة الهادئة يساورها الخوف حين تفكر في المستقبل، بمستقبلها، وبمستقبل أولادها المنتظرين. خوفها من أن يعيش ابنها الموعود مثلها، يكشف تقييمها لحياتها، ولقدرتها على مقاومة الواقع الذي لا تريد لابنها أن يحاصر بمثله. بينما تحاول تسنيم مواجهة الواقع بالصراحة، وتختزل الأمنية بعمق فكرتها عنها وعن أصدقائها وعن المخيم. تكتب تسنيم ‘لو استطعنا لأعدنا فك هذه الخيم الاسمنتية المتحضرة، وأرجعناها لهم، إن أرادوا، واستدرنا عائدين’. كلماتها التي كانت إجابة عن السؤال الذي جعله المخرج محور الحكاية: ‘معنى المخيم’، تشرح مأزقها الوجودي، فالمخيم ليس سوى ‘مكاننا القصري، ومنفانا القبيح، الذي أحسنا صنعاً في تجميله’. لكن الفتاة التي تحمل جواز سفر أوروبي لا تقوى على مغادرة هذا المنفى القبيح. بقاؤها في المخيم، وعودتها إليه، كلما قادتها الدروب إلى السفر، يُظهر عمق ارتباطها بجزيرتها الصغيرة، فتسنيم التي تعبر عن موقفها بصيغة الجماعة، لا تجد سبباً لأن تختار طريقاً منفردة طالما أنها ابنة الحالة، ابنة المخيم، وابنة هذه المجموعة من الأصدقاء. تسأل تسنيم صديقتها وعد: ‘هل سنبقى أولاد مخيم؟’. وكأنها تقول إما أن يكون لنا جميعاً أن نختار مصيراً مختلفاً، أو أن نبقى معاً.. هنا.. في المكان القسري.
الإنسان.. الثورة.. والخيمة
ليست القضية في هذا الفيلم هي الفقر والحاجة إلى المتطلبات المادية الأولية، كما هي الصورة المعتادة عن المخيمات الفلسطينية، فاليرموك كان أشبه بمدينة من اللاجئين، اقتصاده حيوي، وشوارعه عامرة بالمحلات التجارية. الفلسطيني في هذا الوثائقي يلتصق بإنسانيته التي غالباً ما تنزعها عنه الأفلام والروايات. ليس الفلسطيني هنا بطلاً خالصاً، ولا مجرد ضحية، وقضيته لا تختزل في مجموعة من الشعارات السياسية، والأجوبة النهائية. حكاية الفيلم يرويها شباب اليرموك بنهاراتهم ولياليهم، بدردشاتهم وهمومهم الصغيرة والكبيرة. وكأن الفيلم يترجم تفاصيل وجودهم بحيادية، لنقرأ في الصورة والكلمة أزمة الانتماء، علاقة ابن المخيم بمخيمه، وعلاقته ببلد الإقامة وبالبلد الأصلي، بفلسطين المسوّرة بذاكرة الأجداد. يتحدث الفيلم عن الصراع بين رغبة الانطلاق والانجاز، وبين بلادة واقع يشل الحركة، القضية هنا في المحصلة، كما يُعبّر حسان، هي الوضع السوري الخانق الذي يعيشه الشباب عموماً في سوريا، ويضاف إليه صعوبات تخص اللاجئ الفلسطيني. الوضع الذي كان مقدمة طويلة ومديدة لانطلاق الثورة السورية، الثورة التي صنعت منعطفاً في حياة الجميع، وفي حياة البلد.
لا نشاهد الثورة في ‘شباب اليرموك’ سوى في حديث عبر الانترنيت مع علاء في تشيلي. حديث يسخر فيه الشباب من وصف النظام لمتظاهري درعا بالمندسين، ودعايته بأن كل شيء على حاله ولا يوجد ما يثير الاهتمام، فكلها دعايات مغرضة من إعلام مغرض. الثورة التي أشعلت بارقة أمل في تغيير طال انتظاره يجد الشباب أنفسهم ينتمون إليها بالقوة. كلٌّ فيما يستطيع، بقوله أو بتحركه، أو بخبرته في التصوير وفي الانترنيت وتحميل مقاطع الفيديو. غير أن الثورة الحالمة تحوّلت بفعل النظام إلى حرب شاملة، لتفتح على سوريا بوابة الجحيم. ولا يجد الشباب سوى المقاومة ببقائهم، وبثبات تصميمهم على الاستمرار في الحلم والإنجاز.
يجلس أربعتهم أمام كاميرا أكسل في المشهد الأخير، ليضيفوا بعض الأسطر عن معنى المخيم، ومعنى حياتهم في سياق بلد تتكسر أضلاعه تحت وطأة البوط العسكري، فلم يعد هناك ‘مهرب من هذه الورطة الوجودية’ كما يقول سامر، بينما يشعر حسان، الذي يزف لنا خبر إنهائه الخدمة العسكرية، بأن انتماءه إلى المخيم ازداد عمقاً بعد بنائه لغرفة أخرى على السطح ليتشكل عش زواجه. تطور يجعل وعد تبدو منتشية بالأمل بعد ارتباطها بحبيبها، وحصولها على وظيفة جيدة. أما تسنيم فتفتح عينيها على صراخ مكتوم وتقرأ: ‘هنا وككل بقاع الأرض مازلنا نحلم [...] وهنا نخبئ أيامنا بعيداً عن العسكر والصدأ/ نعلم أن لنا غداً لن نتنازع فيه على حقنا في الهواء/ تكبر خيباتنا وآمالنا/ وتضيق بنا الخيمة’. تضيق الخيمة، لكن الشباب لا يستسلمون، ينهض أربعتهم في وقفة واحدة، خلفهم نافذة وضوء، وأمامهم عدسة تسجل اللحظة التي لا تعود. تقفل العدسة عينها معلنة نهاية الفيلم الوثيقة.
من مخيم اللاجئين إلى لاجئي المخيم
يقفل الفيلم شاشته، لكن بوابة الريح تنفتح لتبعثر مصائر الشباب. مثلهم كمثل الملايين في سوريا، يرمي جنون النظام الشعب في دوامة المجهول. فالمخيم الذي كان يجلس على ناصية الحنين ويرسم مستقبله من وحي ذاكرة النكبة القديمة، تبطش به نكبة جديدة، لكنها هذه المرة بيد نظام عربي. يُدمَّر المخيم، ويلاحقُ الموتُ والتهجير والاعتقال أبناءه، قبل أن يُحاصر بالجوع ليتساقط أبناؤه ورقة خلف ورقة.
تغادر تسنيم إلى أوروبا، وينهي سامر خدمته العسكرية ليلجأ مع آلاف اللاجئين خارج البلاد. أما حسان ووعد فيظلان في المخيم. حسان المطلوب لأمن النظام لنشاطه الإنساني والإعلامي والسياسي لا يجد طريقاً للمغادرة. محاولته الوحيدة، والأخيرة، كانت حين دفع رشوة على أمل أن يستطيع المرور من الحاجز العسكري. تمر وعد من أحد الحواجز تاركة قلبها يحاول الخروج من حاجز آخر، لكن ذئاب الأمن لا تترك لقلبها أن يمر سالماً. يُعتقل حسان، وتمر أسابيع على اعتقاله، قبل أن يأتي الخبر الأسود: ‘استشهد حسان تحت التعذيب’.
خبر استشهاده وصل إلى المخرج أكسل قبل ساعتين من عرض الفيلم في اسطنبول. الشاب الفرنسي الذي اختار المخيم في دراسته، وفي عمله التطوعي، وفي فيلمه، لم يكن يتخيل أن الموت قادر على البطش الأعمى إلى هذا الحد. يخبرني أكسل حين التقيته في باريس عن تلك اللحظات بكلمات معجونة بالدموع: ‘كانت لحظة ساحقة، ذهبت إلى العرض لأحكي عن الفيلم وعن أصدقائي، لكني كنت أختنق، لم أكن أعرف كيف سأقوى على نقل خبر مقتل هذا الشاب المبتسم الذي يشاهدونه في الفيلم. كان علي أن أتكلم وأنا أحوج ما أكون إلى الصمت’. العرض كان في كنيسة قديمة يقول أكسل ‘وكنت أقف مكان القس وكأني ألقي موعظة الأحد، لكن صوتي اختنق، ودموعي لم تنتظر أن أختلي بنفسي .. فهذا حسان صديقي.. صديقي الذي قتل هناك وحيداً’.
إكسل سلفاتوري ـ سينز الذي كان ‘شباب اليرموك’ فيلمه الأول، لا يندم على اختياره للمخيم، ويسخر من الفكرة المريحة بأنه لم يكن مضطراً للدخول في متاهة بلاد يُذبح فيها البشر بالجملة. غير أنه يجد نفسه في موقف مفارق، فالفيلم الذي نجح وفاز بالعديد من الجوائز متنقلاً بين أربع جهات الأرض، هو فيلمه، وهو فيلمهم في الوقت ذاته. هم الذين قُذفت مصائرهم في دوامة الإعصار، وتكسرت حتى الحياة البسيطة التي كانت القاعدة الثابتة الوحيدة لقلقهم: ‘الفيلم الذي كان يسجل الحياة القلقة والمحاصرة التي يعيشها الشباب تحول إلى وثيقة للحظة الأفضل من حياتهم بعد الدمار الذي حطم كل ما لديهم’.
يصعب على أكسل، كما يصعب علينا جمعياً ربما، أن يستوعب زلزال الموت والدمار الذي ضرب تلك البلاد! وكيف له أن يستوعب أن الشباب الحالم بركوب المستحيل ليصنع مستقبله، ومستقبلنا، بات حلمه الممكن الوحيد هو ألا يموت، وكيف له أن يستوعب أن مخيم اليرموك، مدينة اللاجئين التي كانت تنتظر عودتها إلى البلاد المسلوبة، تبعثر عائلات وأفراداً في شرق الأرض وغربها، في برها وبحرها، ليُقتلع الناس من أرضهم، كما اقتُلع أسلافهم قبل عقود، وكأنهم محكومون باللجوء والتشرد، وكأن الأرض الوحيدة التي يمكن أن تستقبل جذورهم دون تهديد، هي تلك المعلقة.. عالياً.. في السماء.
القدس العربي