القدس في دائرة الخطر الايديولوجيد
تتصدر القدس هذة الايام العناوين الرئيسية لوسائل الاعلام المختلفة . المحاولات المتكررة لقوي اليمين المتطرف التي تحاول بوتيرة متصاعدة الدخول الى باحات الاقصى من ناحية ، و تكثيف النشاطات الاستيطانية سواء كان داخل البلدة القديمة او في ما يعرف بالجزء الشرقي من المدينة و الذي توج مؤخرا بقرار البلدية ببدء الاجراءات بضم ارض مطار قلنديا للمنطقة الصناعية عطاروت من ناحية ثانية، اضافة للجدل الفلسطيني و العربي بعد دعوة الرئيس عباس للعرب بكسر الحصار عن القدس من خلال زيارتها و لاحقا فتوى الشيخ القرضاوي الذي حرم ذلك و الفتاوي المضادة من قبل مفتي الديار المقدسة ووزير الاوقاف الفلسطيني اللذان اعترضى على فتوى القرضاوي من ناحية ثالثة.
الدوافع الايديولوجية اليهودية للصعود الى باحات الاقصى.
على الرغم من الموقف الديني اليهودي بتحريم الصعود الى باحات الاقصى لاعتقادهم ان هيكل النبي سليمان يوجد في مكان ما تحت باحات الحرم القدسي الشريف، و لانهم لا يعرفون بالضبط في اي جزء من الباحات توجد بقايا المعبد خاصة قدس الاقداس، و لان هناك طقوس معينه وفقا للديانة اليهودية لها علاقة بطهارة الانسان الذي يجب ان يتواجد في هذا المكان الذي يعتبر تدنيسة وفقا للديانة اليهودية هو من اكبر الكبائر التي يمكن ان يرتكبها الانسان، لذلك كانت فتوى الحاخامات اليهودية بتحريم الصعود الى باحات الحرم على اليهود.
هذة الفتوى تصدعت بعد احتلال المدينة في العام 1967 بقليل عندما خرج عن هذه القاعدة الحاخام شلومو غورن الذي كان يشغل منصب الحاخام الاكبر للجيش الاسرائيلي حيث خرج بنظرية ادعى خلالها انه استطاع بشكل هندسي ان يحدد الجزء الذي لا يجوز لليهود ان يتواجدوا به، اما بقية المكان، خاصة الجزء الغربي من الباحات، يسمح لليهود بل واجب عليهم ان يزوروه . لم يتوقف عند ذلك الحد، بل دعى الى بناء كنيس في هذا الجزء الغربي من باحات الحرم .
منذ ذلك الحين توسعت دائرة الحاخامات اليهودية التي في غالبيتهم العظمى، ان لم يكن جميعهم يتبعون للتيار الديني القومي الذي يقود المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية. اليوم الغالبية العظمى من الزعماء الدينيين للمستوطنين يؤيدون الصعود الى ساحات الحرم مما يفسر تصاعد وتيرة المحاولات في دخول المكان. يساندهم في ذلك متطرفي اليمين الاسرائيلي غير المتدين مثل جماعة امناء جبل الهيكل وزعيمها قرشون سلمون التي تنطلق من منطلقات قومية. هذا على الرغم من موقف الحاخمين الاكبرين في اسرائيل ، و اللذان يعتبران المرجعية الدينية للدولة، بتحريم الصعود الى باحات الحرم. النتيجة انه كلما اتسعت دائرة الحاخامات اليهودية التي تؤيد الصعود لباحات الحرم كلما ارتفعت وتيرة التوتر .
الاستيطان في البلدة القديمة و داخل الاحياء العربية.
بعد احتلال الجزء الشرقي من مدينة القدس في العام 1967 حيث كانت حكومة العمل، و الى ان حدث الانقلاب السياسي بعد فوز الليكود في الانتخابات الاسرائيلية عام 1977، السياسة الاسرائيلية اعتمدت على تهويد مدينة القدس من خلال زيادة مساحتها من سبعة كيلو مترات الى سبعين كيلو متر، عزلها عن بقية المدن الفلسطينية من خلال سلسلة من المستوطنات الكبيرة التي تحيطها من كل جانب، تشديد الخناق على المواطنين المقدسيين من خلال سلسلة من الاجراءات الاقتصادية و الادارية لاجبارهم على ترك المدينة و بالتالي تحقيق الغالبية اليهودية المطلقة..الخ من الاجراءات التي وفقا للقانون الدولي تأخذ الطابع العنصري.
بأستثناء اعادة بناء الحي اليهودي و توسيع باحة حائط البراق على حساب حارة المغاربة، كانت السياسة الاسرائيلية التي حدد معالمها رئيس البلدية تيدي كوليك في حينة بعدم الاستيطان في الحي الاسلامي و الحي المسيحي .
بعد صعود الليكود للحكم، تم تأسيس اكثر من جمعية يهودية متطرفة اخذت على عاتقها تعزيز الاستيطان اليهودي داخل البلدة القديمة بشكل خاص و داخل الاحياء العربية بشكل عام. اهم هذة الجمعيات و اكثرها خطورة هي جمعية "عطيرات كوهنيم" و جمعية "ألعاد". الدافع الديني و الايديولوجي لهذة الجمعيات هو تقويض الوجود الفلسطيني الاسلامي و المسيحي و في المقابل تعزيز الوجود اليهودي.
حصيلة هذا النشاط الاستيطاني المدعوم اولا من المؤسسات الحكومية المختلفة في اسرائيل و ثانيا من بعض رجال الاعمال اليهود المتطرفين في العالم اضافة الى بعض القوى المسيحية المتصهينة هو السيطرة على الكثير من العقارات و الممتلكات داخل البلدة القديمة و التي تقدر بعشرات المواقع. العَلم الاسرائيلي الذي يرفرف عاليا فوق هذة المباني التي تم السيطرة عليها بوسائل في الغالب غير قانونية و من خلال عمليات نصب و احتيال و الاستقواء بالقانون وفقا لتقارير حتى مراقب الدولة في اسرائيل يمكن مشاهدتها بسهولة . ايضا يمكن مشاهدة العَلم الاسرائيلي يرفرف على عشرات المباني في سلوان ووادي الجوز و الطور و غيرها من الاماكن.
هذة الجماعات المتطرفة مدعومة اليوم بشكل كامل من الحكومة الاسرائيلية الحالية التي تشاركهم الرؤيا بضرورة الاسراع في خلق اكبر قدر ممكن من الحقائق على الارض لكي تصبح القدس خارج نطاق اي مفاوضات مستقبلية، و لكي يصبح الحديث عن قدس شرقية و قدس غربية هو نوع من اللهو التفاوضي ليس له علاقة بالواقع.
انتصار التطرف و تراجع قوى الاعتدال
في بداية المشروع الصهيوني، اواخر القرن التاسع عشر، هرتسل كان يفكر بأن تكون عاصمة الدولة اليهودية فوق جبال الكرمل لاعتقادة ان الدولة الحديثة يجب ان يكون طابعها علماني اكثر منه ديني، و ان البلدة القديمة للقدس بكل ما فيها من مقدسات للديانات الثلاث يجب ان تكون تابعة للتراث العالمي، و ان التركيز اليهودي يجب ان يكون في بناء احياء جديدة في الجزء الغربي من المدينة.
حاييم وايزمن الذي قاد الحركة الصهيونية من بعده، و خلال المفاوضات مع الانتداب البريطاني طالب ان تبقى البلدة القديمة وفق اي حل مقبل تحت مسؤولية الانتداب. في رسالتة الى وزير المستوطنات البريطاني قال " انهم يفضلون ان تبقى تحت مسؤولية الانتداب"، و بعد عشر سنوات من هذا التاريخ و بعد ان قررت بريطانيا انهاء انتدابها على فلسطين و صدور قرار التقسيم الذي نص على ان تبقى القدس خارج نطاق الدولتين، العربية و اليهودية، وافق دافييد بن غوريون على ذلك .
منذ ذلك الحين و الخط اليميني اليهودي المتطرف في تصاعد متواصل و الخط الصهيوني العلماني العقلاني نوعا ما في تراجع. ما يحدث اليوم من اجراءات لتهويد القدس بسرعة جنونية هو انتصار للخط الصهيوني اليميني الذي لا يؤمن بحل سياسي مع الفلسطينيين على اساس الدولتين.
اليوم، و من الناحية العملية، الحكومة اليمينية في اسرائيل تنهي جدل ايديولوجي و سياسي حول الموقف من القدس و كيفية التعامل معها عمرة اكثر من مئة عام. وجهة النظر التي تقول ان استمرار الاجراءات الاسرائيلية بهذة الوتيرة لن يبقي ما يتفاوض علية الفلسطينيين في المستقبل، هي وجهة نظر صحيحة لا يمكن مواجهتها بخطابات رنانة و تصريحات نارية فارغة من اي محتوى. ما تحتاجة القدس و اهلها هو خطوات عملية تُثبت اقدامهم و تخفف من معانياتهم.