الحركات الإسلامية العربية: أي نموذج؟

talal.okal

ليس ثمة من يجادل في أن "الربيع العربي"، ما انقضى من سنواته وما هو آت، يبشر بشتاء إسلامي كما يحلو لرئيس الحكومة المقالة في قطاع غزة، إسماعيل هنية أن يقول، التجارب الثلاث التي وضعت أقدامها على عتبة التغيير، وهي مصر، والمغرب وتونس، أظهرت تفوق الحركات الإسلامية عبر صناديق الاقتراع، ما يتيح لها الفرصة، لقيادة المرحلة القادمة بجدارة، ودون قدرة للآخرين على المنافسة.

وبصرف النظر عما إذا كان التاريخ يعطي للحركات الإسلامية مثل هذه الفرصة، بعد فشل التجارب القومية والاشتراكية والمختلطة، أم أن حسابات القوى الداخلية والخارجية، هي التي تفرض حقيقة، سيطرة الإسلاميين على أنظمة الحكم في هذه البلدان، وربما في غيرها، أيضاً، فإن السؤال الكبير الذي ينتظر الجميع جواباً عليه هو، ما هي طبيعة النظام السياسي، الذي ستعتمده هذه الحركات.

لا يكفي التعميم، أو الغموض، فإذا كان من غير المحتمل إقامة الدولة الدينية، فإن ثمة نموذجين يعبران عن ظاهرة نجاح وفشل، لخصها بعض الكتاب الإسلاميين بالحديث اختصاراً عن نموذج أردوغان وهو يشمل إلى حد ما، أيضاً، نموذج ماليزيا، وعن نموذج "طالبان".

الأول عرف بانفتاحه على لغة العصر، ونجح في دفع عجلة التنمية والتطور في كل من تركيا وماليزيا، إلى الأمام، وللمنافسة على مواقع متقدمة بين الدول ذات الاقتصادات القوية، أما الثاني، وهو نموذج "طالبان" فقد عكس رحلة فشل وعزلة، بسبب التشدد في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، ومحاولة أسلمة الدولة والمجتمع بالكامل.

يبدو أنه سيكون من الصعب على جماعات "الإسلام السياسي" التي وصلت إلى سدة الحكم في الدول العربية، اقتفاء أثر هذا أو ذاك من الأنظمة التي تقدمت كنماذج لحكم "الإسلام السياسي"، فإذا كان نموذج "طالبان" غير مرغوب وغير قابل للتكرار، فإن سمات النموذجين التركي والماليزي تختلف عن سمات النموذج العربي المرتقب، ما يجعلنا نعتقد بأننا ما زلنا ننتظر المجهول، الذي يثير لدى القوى الليبرالية، والقومية واليسارية والوطنية الكثير من المخاوف والشكوك.

لهذه المخاوف والشكوك أساس موضوعي يكمن في سلوك الجماعات الإسلامية أو بعض قيادييها، فلقد كان مثيراً للاستياء، تصريح وزير الثقافة التونسي، الذي رفض السماح بمشاركة بعض الفنانات اللبنانيات في الأسبوع الثقافي الذي تقيمه تونس سنوياً، بل انه كان حاداً، وعبر عن حالة من التشدد غير المقبول حين قال: "على جثتي يمكن أن تشارك كل من أليسا ونانسي عجرم في المهرجان الثقافي".

المفاجأة غير السارة جاءت لأن ما ورد على لسان وزير الثقافة التونسي كان متناقضاً مع ما عرف من وعود وتصريحات على لسان زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي بشأن كيفية إدارة الحكم، وكانت تتصف بالمرونة، والديمقراطية، واحترام الحريات الفردية والجماعية، فضلاً عن أن حرص حركة النهضة على بناء شراكة في الحكم مع حزبين آخرين، كان مؤشراً على سلوك إيجابي واعد.

في مصر كان السلوك السلبي مبكراً، وقد لاحظناه في جلسة مجلس الشعب، حين رفض بعض النواب الالتزام التام "بنص القسم"، وحين رفع أحدهم الآذان داخل المجلس، فضلاً عن الاستحواذ على رئاسات معظم لجان المجلس.

من المؤكد أن هذه السلوكيات ليست كافية للحكم على مستقبل وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي القادم في مصر أو في تونس، ولكن مهما يكن الأمر، فإن ثمة ضرورة لقراءة العناصر الإيجابية في تجربتي كل من تركيا وماليزيا، طالما ليس بالامكان، تكرار نفس التجربة، وطالما أن النجاح لا يرتبط بالضرورة بتكرار هذه التجربة أو تلك.

بقدر اطلاعنا على التجربة التركية، وهي مستمرة منذ تسع سنوات وقابلة للاستمرار لسنوات أخرى، فإننا نسجل التالي:

أولاً: حين سألنا بعض المسؤولين عما إذا كان حزب العدالة والتنمية حزباً إسلامياً، جاء الجواب: إن التعريف الدقيق للحزب هو أنه حزب ديمقراطي محافظ، وكلمة محافظ تعني احترام تاريخ وتراث وتقاليد الشعب التركي، بما في ذلك كونه شعبا مسلما.

في المدارس يجري تعليم التلاميذ، مادة الدين، تحت مسمى الدين والأخلاق، ولساعتين أسبوعيا، وبعد ذلك يترك لكل مواطن حرية العبادة، حيث يوجد في تركيا حوالي ستة وثلاثين ألف مسجد.

ثانياً: لا شأن للدولة بالدين، فالدولة تدار حسب الدستور، الذي يفصل بين الدين والدولة، ولذلك لا تجد لا في الشارع ولا في المؤسسات أي مظاهر تدين، أو تحديد لكيفية أداء الشعائر الدينية، وابتداءً من المطارات وهي مداخل تركيا، إلى الأزقة، فإن كل شيء متاح دون قيود أو مضايقات.

ثالثاً: تركيا تعتمد في سياستها الخارجية مع المحيط على مبدأ صفر أزمات مع الجيران، ولذلك فإنها تقود سياسة هادئة، إيجابية، وعلاقات تعاون وتبادل مصالح مع جيرانها اللهم إلاّ حين تفرض أزمات ومشاكل الجيران نفسها على السياسة التركية.

ولأن تركيا تسعى وراء مصالحها في الأساس، فإن رؤيتها لبناء اقتصادها ومجتمعها الداخلي مرتبطة بمصالحها ومبادلاتها الخارجية، وهي في معظمها وبنسبة تفوق 65% مع الدول الأوروبية، التي تتطلع تركيا لأن تكون، إحدى أهم دول الاتحاد الأوروبي.

إن تجربة تركيا تثير الاعتزاز، سواء في بناء الحزب، ودوره القيادي الذي لم يقص الخبرات الموجودة في المؤسسة الحاكمة، ولكنه يقودها ويستفيد منها ويوجهها وفق برنامجه وقراراته، أو في بناء المجتمع إلى الدرجة التي تجعلنا نتمنى لو أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي تستطيع تمثل تجربة تركيا وحزب العدالة والتنمية، وتأخذ بناصيتها.