التفاوض بالقطعة يسهل تهويد الأرض

بقلم: 

 

ربما يصح التقول أن الفارق بين تناول كثيرٍ من الفلسطينيين وحتى كثيرين من العرب للصراع مع الكيان الصهيوني على نحو مربك ما يُشجع الكيان الصهيوني على مواصلة سياساته العدوانية والاستعلائية معاً . ويمكن تكثيف الفارق على النحو التالي:

تناول الفلسطيني لقضايا الصراع بالقطعة، وتناول الكيان لهذه القضايا رزمة متضافرة، وإن بدت مفككة، يكمن خلف تناول الصراع بالقطعة تهرب الفلسطيني من اتخاذ موقف حاسم من الصراع يستجيب لحقيقة الصراع نفسه، وفي الجانب العربي التهرب من الاستحقاق الجماعي القومي تجاه العدو . وهذا ما يسمح للكيان الصهيوني بمواصلة سياساته المترابطة والتي هدفها الأساس احتلال المكان أي الأرض بالتحطيم المتواصل للحيز الفلسطيني، سواء بالطرد الموسع 1948 أو بالإزاحة بعد احتلال ،1967 وصولاً إلى دفع الفلسطيني لقرار الانزياح الذاتي خضوعاً لسياسات الاحتلال مجسدة في مصادرة الأرض والاستغلال الاقتصادي والقمع وخاصة الأسر .

وعليه، فإن تمكن الكيان الصهيوني من تصوير الصراع على أنه: “إطلاق يده في التهام الأرض مقابل تحرير بعض الأسرى” بغض النظر عن موافقة المفاوض الفلسطيني أم لا هو في الحقيقة قمة المأساة .

أي ليست العبرة في إقرار المفاوض الفلسطيني بهذه المقايضة، بل في عدم وقف التفاوض على الأقل احتجاجاً على ممارسات الاحتلال المتواكبة قصداً مع التفاوض .

في مناخ التعاطي بالقطعة يحاول الطرف الفلسطيني المفاوض مواصلة التفاوض مكتفياً بإفراج سلطات الاحتلال عن 26 أسيراً فلسطينياً، عازلاً ذلك عن توسيع الاحتلال من هجمته الاستيطانية على الجغرافيا سواء بالإعلان عن بناء 1500 وحدة سكنية، أو هدم 70 منزلاً في بلدة شعفاط، أو تقطيع الأشجار هنا وهناك، واغتيال مواطن في قباطية ومحاولة الاختراق في خان يونس، ومواصلة الحفر تحت المسجد الأقصى، وحراسة تدفق المستوطنين إليه وصولاً إلى تقسيمه من حيث المكان والزمان إن لم نقل هدمه . . . إلخ . وإلى جانب كل هذا يمارس الكيان الصهيوني الضخ الإيديولوجي والإعلامي، بل وتوظيف كل هذا من أجل اعتراف الفلسطينيين بفلسطين دولة يهودية بحتة . كل هذا معاً! بهذا المعنى في الجانب الفلسطيني يتهرب المفاوض من وقفة حادة ومتماسكة بمعنى وقف التفاوض احتجاجاً على سياسات وممارسات وخروقات الاحتلال فرادى أو مجتمعة . بل يتجاهل المفاوض الفلسطيني كل هذه المخاطر ويركز على أهمية تحرير مجموعة من الأسرى في حالة من اتقاء النقد واتقاء التوقف عن الاستمرار في التفاوض .

هنا يلعب الكيان لعبته في الحرب النفسية، بحيث يظهر المفاوض الفلسطيني وكأنه لا يهتم بالسياسات الخطرة كافة التي ينفذها الكيان متزامنة مع بعضها البعض في حين يركز الفلسطيني على تحرير مجموعة من الأسرى وهو التحرير الذي يواكبه اعتقال أعداد أكبر في الوقت نفسه، وحتى إعادة اعتقال أسرى محررين بموجب تعهدات صهيونية بعدم التعرض لهم . وتقوم السلطة الفلسطينية بدورها بالتركيز العاطفي والسياسي على مسألة الأسرى والحديث عن الإصرار على تحرير الآلاف ممن هم في معتقلات العدو وهو أمر مشروع بالطبع، ولكن لا يجب تناوله معزولاً عن الأمور الأخرى، لأن ذلك العزل يسهّل على العدو ما يقوم به في كل أمر ويسمح له بربط ممارساته مع بعضها ضمن خطة ممنهجة وهدف واحد هو الأرض .

وهنا يبدو المفاوض الفلسطيني وكأنه يهتم بخروج الأسرى ولا يهتم بانزلاق الأرض من تحت قدميه . وتذهب الأمور إلى ما هو أكثر تعقيداً ما يزيد الشرخ بين السلطة والمواطن، وهو ما تلخص في اتهامات للسلطة وللمفاوض بأنهم قايضوا خروج دفعة من الأسرى بالقبول ببناء وحدات استيطانية جديدة . وهو استنتاج لا يسهل القبول به، بمعنى أن التورط لا يصل هذا الحد، خاصة أنه ليس من حق الاحتلال أسر الفلسطينيين، كما أن الأرض ليست للاحتلال قطعياً .

ولكن عامل الشرخ في الثقة بين المواطن والسلطة يصل إلى هذا الحد، وفي المقابل تتورط السلطة في الأخذ والرد على هذا وذاك في مماحكات سياسية الهدف منها تعزيز كل طرف فلسطيني من شعبيته الخاصة والفئوية الفصائلية .

وهنا يبرز السؤال: ما العمل في مناخ كهذا؟ هل يقبل الفلسطينيون بالتهديد الصهيوني بعدم الإفراج عن الأسرى إذا ما توقفت السلطة عن التفاوض بسبب مصادرة الأرض؟ وهل يجب أن يرتبك الفلسطيني من وجود قوى في حكومة وبرلمان الكيان ترفض مجرد الإفراج عن أي أسير من حيث المبدأ . وهذه القوى تلعب دور تظهير الصراع وكأن للكيان الحق في الأسر والاستيطان، وبأن تحرير أي أسير هو من عطايا الاحتلال . وهو سلوك صهيوني يخفي عن العالم قصداً بأن الفلسطيني يقاوم لأن ذلك حقه وواجبه .

إن هذه المبالغات من قوى الاحتلال السياسية هي مظاهرات إعلامية مقصود بها الرأي العام العالمي من أجل تأصيل قضية مختلفة تماماً، وهي إظهار الأمر بأن الكيان دولة طبيعية على أرضها وبأنها مضطرة للإفراج عن “مخربين” دخلوا أرضها . بهذا تدور الأمور دورة واسعة لتنتهي إلى الصراع على الجغرافيا، على الأرض وهو ما يطرح الاستنتاج النهائي بأن مختلف هذه القضايا مترابطة لأنها قضية واحدة وبأن العلاقة بهذا الكيان ليست علاقة سوء جوار وليست علاقة طرفين طبيعيين يختلفان على تفاصيل أو استثناءات . ليس هدف هذا الحديث هو الدعوة لتقليد الاحتلال في استراتيجيته المتسقة وترابط تكتيكاته، بل التأكيد على وجوب وضوح رؤية الفلسطيني بأن قضيته واحدة وليست أجزاء مفككة منفصلة، وبأنها هي مترابطة بذاتها، وليس عليه سوى أن يراها كما هي، وليس كما يصورها له العدو . تم ويتم استشهاد وجرح وأسر المناضلين لأنهم أساساً يدافعون عن الأرض . ولم يكن لا هدفهم ولا خيارهم أن يُحرروا مقابل التهام العدو للأرض التي أُسروا من أجلها . وبالتالي يجب على المفاوض الفلسطيني رفض الربط الصهيوني بين القضيتين باعتبار واحدة ثمناً للأخرى . وهذا يستوجب، وقف التفاوض، خاصة لأن العدو يربط الأمرين واحداً مقابل الآخر، في مقايضة يجب ألا تكون .

لعل أهم جوانب هذا المأزق الآن هو أن هذه ليست المرة الأولى التي يفرض العدو مقايضات من هذا النوع، منها احتجاز تحويل ضريبة المقاصة، أو سحب بطاقات ال”V .I .P” أو وقف تصاريح شغل العمال داخل اقتصاده . . . إلخ، ومع ذلك استمر الفلسطيني سواء في التنسيق الأمني أو التفاوض، الأمر الذي جعل من العودة للمفاوضات رغم انتهاكات العدو كافة أمراً مألوفاً . وعليه يتمحور الموقف على النحو التالي: استمرار الكيان الصهيوني في تنفيذ سياسات مترابطة مع بعضها البعض مستفيداً من تحويل المفاوضات إلى مجرد تقطيع وقت يُنتج له اقتطاع أراض، وهذا ما يؤكد له أنه في الطريق التي أراد . وفي المقابل يقف الفلسطيني أمام: إما تسهيل مهمة الاحتلال عبر التفاوض غير المجدي له قطعاً، والمجدي للكيان كليةً، أو خيار وقف المفاوضات . وهكذا، إذ كان تحليلنا أعلاه دقيقاً، فإن على الفلسطينيين وقف التفاوض مع الاحتلال، ووضع الأنظمة العربية والأسرة الدولية أمام مسؤولياتهم بالحد الأدنى في ما يخص توفير إمكانات الصمود للفلسطينيين . هذا على المستوى الرسمي . أما على المستوى الشعبي فليس هناك سوى الواجب الوحيد وهو أن الحياة مقاومة بغض النظر عن شدة الظروف وقلة الإمكانات .