فشل التجربة الحزبية العربية

خاص بزمن برس

تشكل الظاهرة الحزبية إحدى أهم الظواهر التي عرفتها المنطقة العربية في ظل التجربة الاستعمارية، ورغم استمرارها في الحياة السياسية العربية، إلا أنها لم تؤدِ ذات الوظائف التي أدتها الأحزاب في التجربة الأم، مما أبقاها إلى حد كبير ظاهرة غريبة بالنسبة للمجتمع العربي، فقد حافظت التشكيلات الاجتماعية التقليدية على دورها في إطار هذه المجتمعات (العشيرة، القبيلة، الطائفة، العائلة....) حتى أن العديد من التجارب الحزبية جاء ليندرج في خدمة هذه التشكيلات التقليدية.

ولدت الأحزاب السياسية في التجربة الأم عند درجة معينة من تطور المجتمع لتنظيم انقساماته، وجرها إلى خارج دائرة العنف، مما جعل التجربة الحزبية تولد في إطار مجتمع مدني يملك من السمات ما يدعم هذه التجربة وعلى رأسها: استقلال المجال الاجتماعي بالنسبة للمجال السياسي، ومرونة العلاقات الاجتماعية التي تضفي على انتماء المواطنة قيمة أصلية، وتحول العلاقات الترابطية في البناء الاجتماعي من علاقات عمودية إلى علاقات أفقية فتم إقرار التعددية وتداول السلطة، وحقوق الإنسان، والاختلاف، وحرية التعبير عن الرأي.. الخ، مما يجعل اللعبة السياسية تقوم على قواعد وأسس واضحة، لا يشكل الإلغاء أحد قواعدها.

حملت التجربة الحزبية العربية أثقالها من زمن الاستعمار إلى زمن الاستقلال، للتعامل مع شروط عمل جديدة، فقد اصبح العديد من البلدان يحكم من قبل أحزاب وطنية، التي أخذت تطبق عقائدها، وهناك دول ساد فيها نظام الحزب الواحد باسم التحديث والتنمية والتقدم. حيث قامت بالسيطرة على الفضاء والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي باسم تحقيق مشروع التنمية والاستقلال الوطني في مقابل إشباع حاجات المواطنين في المأكل والمسكن والتعليم والصحة، وفي الوقت نفسه نزع تسيس المجتمع، واقتصار ممارسة السياسة على إطار واحد ومنعه خارج هذا الإطار باعتباره »متعهد التنمية» لقد أدى هذا النموذج إلى نتائج كارثية كما هو الحال في الجزائر الآن. أفرزت تجربة الدولة العربية الحديثة سمات متناقضة مع الشعارات التي رفعتها، فلم تستطع استكمال مشروعها في الواقع الاجتماعي ـــ السياسي كسلطة تستمد شرعيتها من المجتمع، لأنها تريد أن تكون فوقه، وظلت تحمل معها ظواهر نقيضة لها كالاستبداد السياسي وحكم الفرد وشخصنة السلطة بين الحاكم والدولة، ومحاولة اندماجها في الواقع الاجتماعي بتضييق الخناق على »المجتمع المدني».

وبسبب هذا التوجه، تم الحفاظ على العلاقات العمودية وتدعميها، لأنها شكل متلائم مع طبيعة عمل وتوجهات السلطات القائمة، فحافظت هذه المجتمعات في بيئتها الرئيسية على طابعها التقليدي. حيث بقيت متمسكة بالعادات والتقاليد والانتماءات القبلية والطائفية والعشائرية، لتلعب دوراً رئيسياً في تنظيم المجتمع. لذلك فإن عملية التحديث الظاهرية، وهي أول ظاهرة من ظواهر التغيير الاجتماعي، لم تؤدٍ إلا إلى إعادة تشكيل البنى والعلاقات البطركية وتعزيزها بإضفاء أشكال ومظاهر (حديثة) عليها، على حد تعبير هشام شرابي.

إن هذه البنية التقليدية التي أعيد إنتاجها في المجتمع بمظاهر حديثة، مترافقة مع التشوه الطبقي، إضافة إلى طبيعة السلطة السياسية، تجعل قدرة الأحزاب على التعبير عن شرائح وطبقات المجتمع قدرة هامشية جداً ومشكوك فيها، لأن مجمل التكوين المجتمعي يدخل في علاقات خارجة عن العلاقات الرسمية، علاقات تخترق النسيج المجتمعي، بحيث تبدو التشكيلات الاجتماعية أسيره هذه العلاقات، إلا إذا دخلت هذه الأحزاب في النسيج التقليدي للمجتمع ذاته وأخذت تعبر عن مصالح هذه التشكيلات ـــ ظاهرة الأحزاب الطائفية ـــ. في مثل هكذا تكوين تقليدي، والذي يجعل دور المؤسسات الاجتماعية الحديثة ذات تأثير هامشي، يبرز دور الجيش بوصفه القوة السياسية ذات البنية الأحدث. وفي ظل عدم قدرة الأحزاب على لعب دور سياسي هام وملء الساحة السياسية، فتقدمت الجيوش لملء الفراغ الذي شهدته المنطقة، فالمؤسسة العسكرية تربعت على عرش السلطة في المنطقة العربية.

لذلك، لا تشكل الأحزاب الثقل الرئيسي الذي تتمتع به جماعات أخرى كالجيش والبيروقراطية، والتي تجد جذورها القوية في تراث هذه المجتمعات بشكل لا يقارن مع الأحزاب السياسي، ومن ناحية أخرى هناك أهمية كبرى في حقل السياسات للجماعات التي تعتمد علاقات القرابة والعلاقات الشخصية. وهي تسهم مساهمة كبيرة في صياغة الحياة السياسية في المنطقة. وفي هذا السياق توجد الأحزاب إما كواجهات سياسية، وإما كأبنية عامة تمارس الجماعات ذات البنية التقليدية أنشطتها من خلالها، كما أن هذه الجماعات تخترق في كثير من الأحيان وتصبغ الجماعات الأكثر رسمية، والقرارات التي تعزى إلى التنظيمات الرسمية، يمكن أن تكون في الواقع نتاجاً لهذه الجماعات.

مما يجعل الأحزاب مجرد تجمعات فضفاضة للتكتلات التي تعكس مصالح بنية تقليدية، بذلك لا تتعدى جذورها القشرة العليا للمجتمع، وفي داخل تلك القشرة تكون الأحزاب مجرد أدوات لذوي النفوذ والنخب الصغيرة.

إن عدم وجود قواعد واضحة للعبة الأحزاب السياسية، وفقدان العملية لتداول السلطة والانتماءات الأفقية التي تجعل عمل الأحزاب مجدٍ، جعل العمل الحزبي مأزوماً وهامشياً، مما دفع بـ»أحزاب الهوية» ــ الأحزاب الإسلامية، الأحزاب الطائفية ـــ إلى اقتحام المسرح السياسي لتغيير قواعد اللعبة جوهرياً، على حد تعبير برتران بادي، وتتسم خاصية هذه الأحزاب بتشجيع هوية انتماء أخرى تحل محل انتماء المواطنة، بصفتها انتماءات متجاوزة للحدود الوطنية ــ الهوية الإسلامية ــ، أو هوية جزئية ــ الهوية الطائفية ــ وعلى هذا يختلف حزب الهوية عن غيره من الأحزاب، فمشروعه لا يندرج في صراع تنافسي من أجل السلطة السياسية، بقدر ما يندرج أساساً في مجهود لتنشئة أخرى وحشد بديل، محبذاً لهوية سياسية غير تلك المعلنة رسمياً، مما يعني إنتاج تعبئة سياسية سلبية.

أكدت تجربة الانتفاضات العربية فشل التجربة الحزبية العربية، فأي من هذه الأحزاب لم يكن لها دور المبادر في اطلاق عملية التغير في المنطقة، مما جعل هذه العملية تنطلق من خارج البنى الحزبية كاحتجاج مجتمعي شامل على سلطة سياسية توحشت الى اقصى درجة، وفي أحسن الحالات التحقت هذه الأحزاب بعد حين بالحراك الشعبي.

ولا شك أي بنية جديدة للأحزاب في البلدان التي شهدت الربيع العربي، والتي تحتاجها كضرورة سياسية يجب أن تنطلق من أسس جديدة وعلى اساس بنى جديدة أيضاً يبشر بها الربيع العربي ولكن لا يضمنها كحتمية دون جهود حقيقية من الكتل السياسية الوليدة.