مصر أمام الاستحقاق الصعب

الاهتمام العربي، الشعبي والرسمي، غير المسبوق بانتخابات الرئاسة المصرية يؤكد الكثير من الحقائق، لعل أهمها، حقيقتان، أولاهما مكانة مصر المركزية في الحياة العربية، ثم أهمية انتخابات الرئاسة فيها هذه المرة، نظرا لأنها ستحدد إلى حد بعيد وجهة الدولة العربية الأهم في المنطقة، ومستقبلها السياسي، وبالتالي ستحدد أيضا المستقبل السياسي، ليس فقط لظاهرة الربيع العربي، بل للعرب جميعا، ولعدة عقود قادمة .

 أما الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية، فرغم أنها قد حققت ما كنا قد تنبأنا به من أن شكل المنافسة سيفرض جولة حسم ثانية بين مرشحين، إلا أنها لم تحقق ما كنا قد توقعناه أو تمنيناه من وصول المرشحين عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح للجولة الثانية، حيث وصل بدلا منهما كل من محمد مرسي واحمد شفيق، وكلاهما مرشح صريح لواحد من معسكري القوة في مصر .

من الواضح أن تدرج المعركة السياسية الداخلية قد مر بعدة مراحل، بدأت بإشراك "الإخوان " في السلطة من خلال انتخابات مجلس الشعب التي فازوا فيها بالأغلبية، ومن ثم انفتحت شهية الإخوان للسيطرة التامة على نظام حكم ما بعد مبارك، وتراجعوا عن تصريحات سابقة، أعلنوا فيها أنهم لن يقوموا بترشيح إخواني للرئاسة، لكنهم تقدموا بخيرت الشاطر، الأمر الذي دفع مركز القوة الآخر الذي يمثله الجيش وأجهزة الأمن إلى الدفع بعمر سليمان مقابل الشاطر، وهكذا فان لعبة الشطرنج بين الطرفين دفعت بهما إلى سحبهما، حتى لا تتوتر اللعبة، وتنفجر مبكرا، ودخلا معترك المعركة بمرشحين صريحين : شفيق ومرسي، ومرشحين غير صريحين أبو الفتوح وموسى .

لو أن الجولة الثانية كانت بين عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح لربما كانت النتيجة مرضية إلى حد بعيد للجميع، ولما دخل الطرفان في معركة كسر عظم , الآن، يمكننا القول بأن مصر للأسف على كف عفريت، فإذا ما ذهب الناخبون يومي 16 + 17 من حزيران القادم فعلا للاختيار بين شفيق ومرسي، فإن النتيجة أيّا تكن سيكون وقعها على الطرف الآخر وخيمة، فالإسلاميون ومنذ الآن يتوعدون بإطلاق ثورة في حال انتخاب شفيق رئيسا للجمهورية، ومن شأن تنصيب الإخواني مرسي رئيسا، ليس فقط أن يرعب أغلب المصريين، بل وأن يقلب كيان المنطقة رأسا على عقب . لم تتوقف نتيجة الجولة الأولى عند حدود حصر منصب الرئيس بين مرسي وشفيق وحسب، ولكنها أظهرت عدة أمور بالغة الأهمية، منها: أولا تدني حجم المشاركة في التصويت التي جاءت بأقل من نصف عدد الناخبين، على عكس انتخابات مجلس الشعب، كذلك أظهرت تراجع يصل إلى النصف تقريبا من حجم القوة الانتخابية التي حققها الإخوان في انتخابات مجلس الشعب .

صحيح أن أداء الإخوان المخيٍّب في مجلس الشعب كان سببا وراء انفضاض نحو نصف من منحوهم أصواتهم قبل بضعة شهور فقط، لكن ليس صحيحا أن أصوات المحتجين على أداء الإخوان في مجلس الشعب ذهبت لشفيق، بل ربما للمرشحين الآخرين ( تحديدا أبو الفتوح وحمدين صباحي ) لكن قوة شفيق كانت في وجود معسكر قوي يدعمه وهو الأقليات _ تحديدا المسيحيون , ورجال الأعمال _ قطاع السياحة , والمؤسسة العسكرية بالطبع أو ما يمكن تسميته باليمين العلماني إن صح التعبير , المتخوف من سيطرة الإسلاميين على كل مقاليد الحكم . الشعب المصري بأغلبيته يعرف بأن الإخوان هم من سيعيد إنتاج حكم الفرد، وليس شفيق، ذلك أن الإخوان بسيطرتهم على مجلس الشعب والرئاسة وبوجود حزب حاكم وجماعة سياسية وراءه، يعني أنهم حلوا مكان مبارك وحزبه، أما شفيق فهو مدعوم من المؤسسة العسكرية والأمنية _ نعم _ كونه عسكريا , وهو كذلك مرشح تقليدي، لكنه سيذهب على طريق الانتقال التدريجي بالسلطة , كما كان قد أقترح بالمناسبة بإكمال فترة مبارك , مع ضمان انتقال سلمي وسلس للسلطة، والأهم إقامة نظام ديمقراطي بديل نظام حكم الفرد والحزب الواحد .

 إن الذهاب إلى صناديق الاقتراع بهذين المرشحين دون توافق داخلي، سيعني أن مصر ذاهبة إلى حرب أهلية، وربما تكون ردة فعل الطرف المقابل للإخوان من قوى تقليدية ( عسكر ورجال أعمال ) تجاه انتخاب مرسي اقل حدة، لكن ذلك يمكن أن يكون في حال واحد فقط وهو ضمان العسكر إمساكهم بجزء مهم من السلطة، وعدم تسليم قرار الحرب أو منصب القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة لرئيس مدني، مع المراهنة على إفشال حكمه من قبل النظام الإقليمي وحتى الدولي كما حدث مع حكم حماس العام 2006 . أسبوعان من نار تفصلان مصر عن استحقاق صعب للغاية، وقد بدأ الشحن الداخلي وحتى الإقليمي، فورا، والمثير في الأمر هو استخدام ألفاظ وأوصاف تفتقر للياقة وتنم عن روح غير ديمقراطية، وخاصة من قبل المعسكر الإسلامي، فشفيق عوضا عن أنه مرشح رئاسي، لا يحوز اتهامه بما هو غير سياسي، ولو كان هناك ما يحول دون استخدامه حقه في الترشح لكانت لجنة الانتخابات قد منعته، كما أن كل من تابع وشارك في الانتخابات كان يعرف انه مرشح، خاض المعركة مبكرا، ورغم وجوده فيها شارك فيها الإخوان، ولم يحتجوا، وكان يمكن مثلا أن يقاطعوا كفعل احتجاجي، والأهم أنه يمثل نحو ربع الناخبين الذين لابد من احترام عقولهم. تفتقر الانتخابات المصرية إلى الصراع حول البرامج , وهناك شخصنة واضحة للمرشحين، المهم، هو أن هناك معسكرا ثالثا بين الطرفين هو الذي يمثله حمدين صباحي _ اليسار الوطني، السياسي والمجتمعي، وهو مدعوم من أحزاب وشخصيات و في مقدمتها أيمن نور والبرادعي، يمكن أن يكون حلا ومخرجا من المأزق، في حال تنازل احد المرشحين _ مرسي أو شفيق _ لأن حمدين حينها سيحقق الفوز على خصمه الأخر , أيا يكن مرسي أو شفيق، الإخوان لم يفكروا هكذا، بل عرضوا عليه جزرة، سرعان ما رفضها، ولو كانوا عرضوا شراكة برنامجية ـ وطنية، لكان يمكن أن يقبل، لكنهم طبعا غير قادرين على ذلك خوفا من هرب أصوات السلفيين.

الحقيقة المهمة الآن، والتي فاجأت الإخوان وقطر هي أن الطريق إلى الرئاسة والى السلطة المطلقة في مصر التي تحكم قبضة الأمير القطري على المنطقة، وتضعه في موقع الانتداب البريطاني _ هناك قول بان الإخوان متفقون على تأجير قناة السويس 99 سنة لقطر _ ليس معبدا أمامهم، وان معارضتهم ظهرت بأسرع مما توقعوا، وها هي تشكل تحديا حقيقيا لهم، فإما أن يتحولوا إلى قوة ديمقراطية حقة تبدأ بقبول مبدأ الشراكة الذي يعجزون عن تحقيقه حتى في فلسطين، وإلا فإن رقعة رفضهم ستتسع، ومرشحهم الرئاسي محمد مرسي لن يكون رئيسا بشكل مضمون، فيما كانت جرأة شفيق في التصدي لهم من خلال برنامجه الانتخابي سببا في ما حققه حتى الآن من نصف المفاجأة، وفي انتظار النصف الثاني، لن تهدأ قطر ولا القرضاوي، لا قبل جولة الإعادة ولا بعدها، فالمهم أن يسيطروا على السلطة بأي ثمن حتى لو ذهبت مصر إلى الحرب الأهلية!.