هل تحتاج القيادات لممارسة رياضة 'اليوغا'؟

talal.okal

بدو أن إعلان الدوحة الذي ولد أملاً لم يدم طويلاً، قد بدأ يأخذ طريقه إلى الأرشيف الوطني، الذي يضم العديد من الوثائق والاتفاقيات، ليصطف إلى جانب رفيقته 'الوثيقة المصرية' للمصالحة الوطنية، فلقد مرّ عليه أكثر من شهر وكانت له فضيلة واحدة، هي أنه طرح عناوين جديدة للنقاش، واستظهار خلافات مستبطنة كانت ستطرح للتداول العلني بذريعة إعلان الدوحة أو بذريعة أخرى.

إعلان الدوحة، كان صفرا من حيث المضمون، ذلك أن الناس اختلفت عليه، لأنه لم يقدم حلاً لقضايا خلافية، بقدر ما أنه أثار خلافاً علنياً داخل حركة حماس، وبينها وبين حركة فتح، لأنه يؤدي إلى تكريس المزيد من الصلاحيات والمسؤوليات بيد رئيس السلطة، رئيس دولة فلسطين، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس حركة فتح، عدا رئاسات أخرى من المستوى الأقل أو أكثر أهمية.

ليس هذا وحسب، بل إن التخريجة التي قدمها إعلان الدوحة لقضية رئاسة الحكومة، التي ارتفعت أسهمها النظرية إلى حدود الهدف الوطني، هذه التخريجة مخالفة للقانون الأساسي، وبالتالي هي غير صالحة، حين يريد الناس البحث عن ذرائع عبر التمسك بالقانون الذي أطاح به الانقسام ولم يعد يصلح سوى كشماعة تعلق عليه الخلافات، والأهم هو أن هذه التخريجة، تنطوي على استهانة بالكفاءات الفلسطينية القادرة على إدارة حكومة بمهام محددة ومحدودة.

الرئيس أبدى استعداده للتخلي عن هذا الدور، طالما أنه غير مقبول، لكن هذا الموقف، يكون قد أعاد البحث إلى نقطة الصفر، طالما أنه غير متبوع بالبديل، وطالما أن البديل يحتاج إلى حوارات جديدة، ووقت إضافي حتى يتم أو لا يتم الاتفاق عليه.

وبهذا المعنى يكون قد انتهى الدور القطري في المصالحة، وعادت الأمور إلى أصولها، حيث لا مفر ولا بديل عن الدور المصري الأساس، ولكن دون مبادرة مصرية جديدة، لتفعيل اتفاق المصالحة، حتى لو أن هذه المبادرة ستأتي من خلال ممارسة ضغوط على الأطراف الفلسطينية.

قد يكون من بين أسباب فقدان الدوحة لإعلانها ودورها، أن قطر لم تدفع الثمن المطلوب الذي يكافئ رغبتها في أن تفرض نفسها كصاحبة دور فاعل ومؤثر على الملف الفلسطيني، يمكّنها من تجاوز تابوهات الجغرافيا السياسية، وثوابتها، التي أصابها الكثير من الخلل على خلفية الانشغال بالربيع العربي، ولذلك فإن قطر من المرجح أن تحاول المرة تلو الأخرى.

في الواقع فإنني لست من المتشائمين والمحبطين، الذين يستعجلون التوصل إلى أحكام قطعية بشأن فشل المصالحة الفلسطينية، ولدى هؤلاء الكثير مما يقدمونه لتبرير هذه الأحكام، ولكن هذا التشاؤم مساو تماما، للتفاؤل المفرط، وهو في هذه الحالة غير مبرر، لأنه قد يساهم في تعميق وتكرار خيبات الأمل لدى الناس.

الحوارات الممتدة منذ سنوات، والإعلانات والاتفاقيات التي تم التوصل إليها بشق الأنفس، أحدثت أشياء عديدة، لكن المؤكد من بين هذه الأشياء، هو أنها خلقت لدى المواطن الفلسطيني شعوراً باللامبالاة، وعمقت لديه عدم الثقة بقياداته وفصائله، وأسلمته إلى القدر والمجهول فيما يتعلق بكل الشؤون الوطنية وحتى الهموم اليومية. وبالمقابل، فإنها خلقت لدى القيادات السياسية المعنية حسابات تنظيمية وسياسية، وتطلعات شخصية، لا تقيم أي وزن لدور الجماهير فيها، وهي تتصرف كما لو أنها واثقة من رسوخها، وبقائها على سلم الهرم الاجتماعي السياسي إلى الأبد.

مثل هذه القيادة، تفتقر إلى مواصفات القيادة التي تقود شعبها لخوض معركة تحرير وطني، ولتحقيق أهدافه وانتزاع حقوقه الوطنية، وهي تتحول إلى قيادة بيروقراطية، إدارية، تظل في موقع رد الفعل على أفعال الاحتلال، وعلى أفعال بعضها البعض.

نفهم أن المصالحة عملية طويلة، تنطوي على الحاجة لتكليف متدرج ينقل الناس من حالة الانقسام بكل تفاصيلها إلى حالة الاتفاق والوحدة بكل متطلباتها، ونفهم أن هذه المصالحة رغم كل ما يعتريها ويعترضها من عقبات، قد بدأت مسيرتها، ولكن إلى متى يمكن أن تستمر هذه العملية حتى نحصل على مصالحة فوقية، وكم يلزمنا من الوقت والجهد حتى نصل إلى مصالحة كاملة وشاملة تؤدي إلى استعادة الوحدة؟

في الواقع، فإن القيادات السياسية قد حولت موضوع المصالحة إلى ما يشبه المشروع الوطني، الذي ينطوي على ثوابت وأهداف وآليات، ومؤسسات، وهي قد نجحت في إضعاف التركيز الفلسطيني على هذا المشروع دون أن تربح تركيز واهتمام الناس بمشروع المصالحة.

في سوابق العهد العربي، والأنظمة المشابهة للنظام العربي، كان بعض الأنظمة تتعمد إلهاء الناس وصرف أنظارهم بموضوعات مثل كرة القدم، أو أزمات تتصل بحاجات الناس من السلع الأساسية، كالخبز، أو المحروقات، فهل تستمرئ القيادات الفلسطينية إلهاء الناس بمصالحة يقتضي تحقيقها زمناً أطول من الزمن الذي استغرقته عمليه الانقسام؟ الناس اليوم يفرحون حين يلتقي الرئيس أبو مازن برئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، لأنهم يعتقدون أن ما سينجم عن لقائهما هو الترياق، ويفرحون، حين تغيب لغة الاتهامات والتحريض بين طرفي الانقسام، ويتفاءلون حين تجتمع لجنة فرعية من لجان المصالحة، ولكنهم لم يعودوا قادرين على تحمّل المزيد من خيبات الأمل، فلقد نفد رصيدهم منها.

وفي قطاع غزة، يتسقط الناس أخبار المحروقات، ويفرحون حين يأتيهم التيار الكهربائي لثمان ساعات بدلاً من ست ساعات خلال اليوم بطوله، ويفرحون حين يتمكنون من السفر عبر معبر رفح، بعد يوم أو يومين من تسجيل أسمائهم لدى وزارة الداخلية في غزة، ويفرحون في هذا الشتاء القارس البرد حين تسطع الشمس، لأنهم لا يملكون وسائل التدفئة، فهل ترغب القيادات في أن ينصرف الناس إلى همومهم الشخصية الصغيرة؟