خياراتُ الفلسطينيين بعد 26 كانون الثّاني
إن تأجيل اجتماع لجنة المنظمة بعد فشل 'لقاءات عمّان' بدلاً من المسارعة إلى عقدها، يؤكد أنّها ليست الإطار القياديّ المؤقت للمنظمة، ولا تحظى بالأولويّة التي تقتضي تغليب اجتماعاتها على مواعيد الرئيس الأخرى، ولا هي الجهة المعنيّة بتحديد خيارات المنظّمة بعد 26 كانون الثاني.
وإذا تُرِكَت المسألة، كما نلاحظ، بيد لجنة المتابعة العربيّة، فسيكون الموقف واضحاً، وهو ضرورة استمرار المفاوضات، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر (تقريبيّة، أو استكشافيّة، أو عن بعد)، بحجج معلنة أو مستترة، بأن البديل عن المفاوضات غير جاهز ومكلّف جداً، وسيؤدي إلى توتير العلاقات بين الفلسطينيين والعرب من جهة، وبين الولايات المتحدة الأميركيّة وإسرائيل وأوروبا من جهة أخرى، في مرحلة العرب هم أحوج ما يكونون فيها إلى أحسن العلاقات معهم في ظل المتغيرات العربية والإقليمية والدوليّة، خصوصاً في ظل ما يحدث في سورية والعراق، واحتمال تصاعد المواجهة مع إيران بعد تشديد العقوبات عليها، الأمر الذي قد يدفع الأمور نحو الحرب.
أما إذا تم التعامل مع المسألة بوصفها قضيّة فلسطينيّة عربيّة، وأن الفلسطينيين هم المكتوون بنار الاحتلال والاستيطان والجدار والحصار والشتات والتمييز العنصري، والمعرّضون للتهجير الطوعي والقسري، فإنّهم مطالبون ببناء بديل متكامل ليذهبوا به إلى العرب، حكّاماً وشعوباً. بديل فعلي عن خيار المفاوضات الثنائيّة بكل أشكالها، لأن المفاوضات فشلت سابقاً، وحالياً، وستفشل لاحقاً بسبب الاختلال الفادح في ميزان القوى، ولأن إسرائيل، وليس فقط الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة، متعنتة، وغير مستعدة لعرض أو قبول أي حل يحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة.
حتى الحل القائم على مقايضة الدولة بحق العودة ترفضه إسرائيل، وأقصى ما يمكن أن توافق عليه حكم ذاتيّ يسمى 'دولة فلسطينيّة' مقطعة الأوصال من دون القدس وأحواض المياه، وبحيث تضم إسرائيل الكتل الاستيطانيّة الكبرى إليها، وتسيطر على الأغوار، وحدودها ستكون في أحسن الأحوال حدود الجدار. فما طرحه مولخو على عريقات في 'لقاءات عمان' ليس جديداً، وإنما هو تكرار للاءات الإسرائيليّة التي يُجْمِعُ عليها الاتجاه المركزي الحاسم في إسرائيل داخل الحكومة والمعارضة.
تأسيساً على ما تقدم، فالمطروح على الفلسطينيين فعلياً هو استمرار الأمر الواقع، وما يعنيه ذلك من تعليق المفاوضات حيناً واستئنافها حيناً آخر، بشكل مباشر أو غير مباشر، مقابل خطوات بناء الثقة أو من دونها، فحتى هذه الرشوة ليست مضمونة، ولا تشمل الإفراج عن الأسرى القدامى وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 28/9/2000، أي قبل اندلاع الانتفاضة الثانية، كما نصت خارطة الطريق الدوليّة المطروحة منذ حوالى ثماني سنوات.
فحكومة نتنياهو لم توافق حتى الآن على منح الفلسطينيين خطوات بناء الثقة، وتربط تقديمها أو أجزاء منها بالتزام الفلسطينيين بشروط تعجيزيّة، مثل تعهدهم باستئناف المفاوضات المباشرة، ووقف التوجه إلى الأمم المتحدة، وربط تحقيق المصالحة بموافقة 'حماس' أو حكومة الوفاق الوطنيّ على شروط اللجنة الرباعيّة.
إسرائيل مرتاحة على الرغم من بعض المنغصات، ولا تخشى من أن تدفع ثمناً كبيراً لا تقدر عليه، خاصة في هذا العام، في ظل أن الولايات المتحدة الأميركيّة تمر بعام التحضير للانتخابات الرئاسيّة، حيث تشهد تنافساً محموماً بين الرئيس أوباما ومرشح الحزب الجمهوري على كسب ود إسرائيل.
حتى يكون الموقف الفلسطيني على مستوى التحديات والمخاطر، يجب المسارعة إلى عقد حوار وطنيّ شامل يهدف إلى بلورة إستراتيجيّة بديلة متكاملة، وتشكيل إطار قيادي مؤقت لمنظمة التحرير؛ يقود الوضع الفلسطينيّ إلى حين إجراء انتخابات المجلس الوطنيّ، وإيجاد مؤسسة تمثيليّة جامعة. إن مشاركة أعضاء اللجنة التتنفيذيّة في الإطار المؤقت ومراعاة أن يصدر ما يتفق عليه وطنياً من خلال القيادة الشرعيّة المعترف بها للمنظمة، يحل مشكلة تنازع الصلاحيات والسلطات التي يمكن أن تنجم عن وجود مؤسستين قياديتين في الوقت نفسه.
أما تعليق المصالحة وتحويلها إلى 'عمليّة' من دون مصالحة، وإلى التواطؤ الفعلي على إدارة الانقسام وليس إنهاءه نتيجةً لربطها بالمفاوضات ومستقبلها، والمتغيرات العربيّة، وتأجيل اجتماع لجنة المنظمة، وربط الموقف الفلسطيني بالموقف العربي؛ فيدل على عدم وجود قناعة عميقة واستعدادات جديّة حقيقيّة لبلورة خيارات بديلة.
لذا من المتوقع أن تكتفي القيادة بتأكيد تمسكها بخيار المفاوضات وشروطها لاستئنافها مع عدم معارضة المفاوضات غير المباشرة، والاكتفاء بالتهديد بالخيارات الأخرى، ويمكن ممارسة بعضها بشكل انتقائي في ضوء الضغوط الداخليّة والخارجيّة، مثل: التوجه إلى الأمم المتحدة لطرح موضوع الاستيطان، أو طلب التصويت على الطلب الفلسطيني في مجلس الأمن، أو طلب الحمايّة الدوليّة وانطباق اتفاقيّة جنيف الرابعة على الأرض الفلسطينيّة المحتلة، أو التقدم 'السلحفائي' للمصالحة، أو التلويح بالمقاومة الشعبيّة، بحيث تندرج جميع هذه الخيارات في سياق استخدامها كأوراق تكتيكيّة من أجل استئناف المفاوضات، وتحسين شروطها، وليس البحث الجدي عن السير في طريق بديل عنها مع وجود إمكانيات واقعيّة لنقل ملف القضيّة الفلسطينيّة برمته إلى الأمم المتحدة، باعتبارها قضيّة تحرر وطني، وليست قضيّة إقامة 'مؤسسات دولة' تحت الاحتلال على جزء من أرض فلسطين.
إن تقديم وثيقة فلسطينيّة حول الحدود والأمن في 'لقاءات عمان' تضمنت التنازلات السابقة نفسها وتصريحات الرئيس 'أبو مازن' بأن المفاوضات يمكن أن تستأنف إذا اعترفت الحكومة الإسرائيليّة بحدود الدولة الفلسطينيّة، أي بإسقاط مطلبي وقف الاستيطان وإطلاق سراح الأسرى؛ تدل على نهج الرهان على المفاوضات الثنائيّة رغم حصاد الفشل المتواصل، والتبرير الذي يساق لتقديم هذا التنازل. إن هذا الموقف يضع الحكومة الإسرائيليّة في الزاويّة، ويكشفها على حقيقتها أمام العالم كله، ويعفي الجانب الفلسطيني من أي مسؤوليّة عن فشل 'لقاءات عمان'، مع أن ما يحدث في الحقيقة هو أن التنازلات المجانيّة تفتح شهيّة إسرائيل للمطالبة بالمزيد من التنازلات، وتستدعي المزيد من الضغوط الدوليّة الراميّة إلى استئناف المفاوضات دون شروط بحجة أنها أهون الشرين.
إن المفاوضات شكل من أشكال العمل السياسيّ وكل الثورات مرت بها، مثلما مرت بها الثورة الفلسطينيّة، ولكن المفاوضات حتى تتوصل إلى اتفاق يشكل مساومة مشروعة ومقبولة، يجب أن يتوافر لها شروط، أهمها استعداد الجانبين للمساومة.
أما أن يكون الفلسطينيون، وهم أصحاب الحق غير القابل للمساومة، وهم الطرف الضعيف الذي قدم تنازلات تاريخيّة، مثل: الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف والإرهاب، والالتزام بالاتفاقيات ولو من جانب واحد، والموافقة على مبدأ تبادل الأراضي وحل مشكلة اللاجئين حلاً متفقاً عليه، يشمل عودة رمزيّة لعدد محدد من الفلسطينيين إلى أراضي 1948، ورمي سلاحي المقاطعة والمقاومة، واللجوء إلى الأمم المتحدة والقانون الدولي لفترة طويلة رغم استمرار إسرائيل بفرض الحقائق الاحتلاليّة على الأرض؛ فهذا لا يفتح الطريق نحو المساومة المشروعة وإنما إلى الاستسلام.
لابد من تغير قواعد الصراع التي حكمت عمليّة السلام، خصوصاً منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن، والسعي إلى فرض قواعد جديدة. وهذه عمليّة صعبة وطويلة وتدريجيّة، ولكن يجب توافر الإرادة السياسيّة الفلسطينيّة اللازمة لتحقيقها.
وإذا توافرت الإرادة السياسيّة يمكن بلورة رؤيّة إستراتيجيّة بديلة متكاملة لا ترفض المفاوضات من حيث المبدأ، وإنما ترسم متى وكيف ولماذا وحول ماذا ستجري المفاوضات؟ وتعرف جيداً أنه لا يمكن الحصول من طاولة المفاوضات على شيء لا تستطيع فرضه على الأرض. فالذي يجب أن يذهب إلى المفاوضات عليه أن يكون مسلحاً بأوراق القوة والضغط لتوظيفها على طاولة المفاوضات. أما الذي يذهب ضعيفاً دون قوة كافيّة، فعليه أن يرضى بما يُطرح عليه، أو يقبل استمرار عملية السلام كـ'عمليّة' من دون سلام، وأن تكون المفاوضات من أجل المفاوضات لإدارة الصراع وليس حله، أي غاية بحد ذاتها تهدف إلى قطع الطريق على نشوء خيارات وبدائل أخرى.
هناك من يكتب من الُكتّاب العرب إنه لا خيارات أمام الفلسطينيين سوى المفاوضات، وإن رهانهم على العرب أو على صعود الإسلام السياسي وعلى المتغيرات الإقليمية والدوليّة رهان على السراب، وينسون أن ما يدعوننا إليه من عودة إلى خيار المفاوضات بكل الظروف وبأي ثمن خيار جربناه منذ أكثر من عشرين عاماً، ولم نحصد منه سوى الريح والفشل الذريع وتعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان والانقسام.
الرهان أولاً على الشعب واستعداده للكفاح لتحقيق أهدافه الوطنيّة، مستنداً إلى أن قضيته عادلة، وأنها قضيّة عربيّة وإنسانيّة تحرريّة يفتح أمامها الآن فضاءً إستراتيجياً رحباً بعد تراجع الدور الأميركي والإسرائيلي في المنطقة، وبعد الثورات والتغييرات العربية التي أخرجت المواطن العربي إلى الشارع وإدراكه أنّه قادرٌ على التغيير.
يمكن ويجب إعطاء الأولويّة الحاسمة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أساس برنامجٍ سياسيٍ يجسّد القواسم المشتركة، ويعيد الاعتبار للمقاومة المثمرة، ويفتح الطريق لإعادة تشكيل المنظمة بحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسي، ولتوحيد وتفعيل وإصلاح المؤسسات السياسيّة والأمنيّة والتشريعيّة، وعلى كل المستويات والأصعدة، وتشكيل حكومة وفاق وطني مهمتها إعادة النظر في شكل ووظائف والتزامات السلطة، وخدمة المواطن الفلسطينيّ، والتحضير للانتخابات بوصفها شكلاً من أشكال النضال لإزالة الاحتلال، وليس لتشريعه وإدامته.