المهمة الثقيلة للمثقف النقدي

ينتمي المثقف النقدي إلى إطار فكري رافض جزئياً أو كلياً لمجموع البنى الثقافية الموروثة والتي تتشكل منها هوية المجتمع الذي ينتمي إليه ويعيش فيه، محاولاً مع آخرين خلق فضاء آخر يخترق هذه البنى. بهذا الصدام، لا يصطدم المثقف النقدي مع هوية مجتمعة فحسب، بل يصطدم بذلك بهويته الأصلية التي تربى عليها، وبين الانتماءات المتباينة للمثقف تتصدع الهوية وتصاب بشروخ نتاج تعارضات الهوية الأصلية مع الهوية المكتسبة، وهو ما يولد غربة المثقف النقدي في مجتمعه.

تتشكل هوية المثقف الأصلية في إطار الثقافة التي يعيش ويكبر وينمو داخلها، والتي تتكون من منظومة ثقافية اداركية وتقويمية للذات الفردية والجماعية في علاقتها بالآخر، وتنعكس هذه المنظومة في السلوكيات الفردية بتعاطيها مع القضايا المطروحة على الذات الفردية والجماعية. والثقافة تحمل صياغاتها المختلفة عبر مجموعة من الرموز الثقافية التي تشكل قواعد إدراك الفرد والمجموع للعالم الخارجي. ولأن الثقافة هي مجموع التحصيل المرجعي للعقائد والمعايير والقيم التي تصوغها التصورات الجمعية، وتشكل الرموز المرجعية التي تطبع سلوك الذات، ويقع المثقف النقدي في تكوينه الأصلي أسير المعايير والقيم التي تمليها عليه الثقافة السائدة من تصورات معيارية تطرح نفسها كبديهيات.

لأن النظام الثقافي مجموعة من الأفكار المشتركة بين أفراد المجتمع، فهو يقوم عبر صور المخيّال الاجتماعي التي كونتها الجماعة الثقافية عن نفسها، لذلك تتحول إلى ذهنية يشترك فيها أعضاء الجماعة وتتحول إلى مرجعية مستمرة ولاشعورية، وذلك من أجل إدراك الأشياء وتوجيه السلوك. فالذهنية تنطوي في ذاتها على رؤية خاصة للعالم وعلى طريقة للتعامل مع الأشياء تحكم علاقة الإنسان بمحيطه، تبدو كبنية قوية عصية على التفكيك.

تهتز الذهنية التي يرثها المثقف النقدي من محيطه الطبيعي، مع تجربة التعرف على ثقافة أخرى، أو التشكيك في ثقافته المحلية، لأنه ليس متلقياً سلبياً فحسب، بل هو متلقي يتأمل ما يتلقاه من ثقافة وقيم وأفكار. عندما تبدأ الشكوك أو التعامل مع تجارب الآخر تتسرب إلى الباحث عن المعرفة والناقد لمجتمع، تبدأ الشكوك حول النظام الثقافي الذي ينتمي إليه المثقف النقدي الذي ورثه عن إطاره المجتمعي. عندها يشعر بالاغتراب الذهني بحكم الثقافة الجديدة التي حصلها، ويُدهش من سلوك وردات فعل المجتمع تجاه القضايا المطروحة عليه، ويستغرب لماذا لا ينسجم هذا السلوك مع المعايير الأفضل للنظام الثقافي الأفضل. ويصبح مغترباً في إطاره الاجتماعي في الوقت ذاته الذي ينتمي فيه إلى حقل النظام الثقافي ذاته، ولكن لانتمائه للإطار الرافض، فهو يضع النظام الثقافي والمعايير والقيم التي تحيط به موضع المساءلة والشك والرفض، وهو ما يخلق معارضة داخل هذه المجتمعات تعمل على خلق مكان لها في فضاء المجتمع والثقافة التي يعيش داخلها، خالقة لتعددية في ثقافة ومجتمع تبدو أنها صماء.

لا شك بأنّ هناك تداخل عميق ومركب بين النظام الثقافي والذهنية والنظام المعرفي الفردي، لذلك فإنّ المثقف النقدي يقع في كثير من الحالات أسير الاختلاطات التي تفرزها الذهنية الجديدة والانتماء إلى النظام الثقافي، ففي الوقت الذي يتخذ المثقف المسافة النقدية ووجهة نظر أخرى من قضايا مجتمعه، ينشرخ الانتماء بين السلبي والإيجابي، بحيث تعاني الهوية الذاتية من تناقضات الانتماء، مولده شروخاً عميقة باتجاهات متعارضة، تولدها في ذات المثقف، كما هي موجودة موضوعياً في المجتمع.

إذا كان يمكن للفرد أن يخرج عن إطار التوحد مع نظامه الثقافي، بتبني معايير وقيم جماعة أخرى غير جماعته بوصفها نموذجاً مرجعياً له، ويمكن بالتالي أن يسعى إلى تحقيق التكامل مع هذا النظام الثقافي المرغوب، إلا أن النظام الثقافي القار في اللاشعور الفردي للمثقف النقدي يعيده مرة أخرى إلى المواقع التي يعمل على نقدها ونقضها، ومن هنا الظاهرة الطبيعية المتناقضة التي نراها عند الكثير من المثقفين، التناقض بين أفكار المثقف النقدي التي يدافع عنها، وبين سلوكه العملي الذي يجد نفسه أسير البنية الثقافية المتمرد عليها. يمكن للمثقف النقدي تعريف هويته وفقاً لرغبته الذاتية، أي وفقاً للصورة التي يملكها عن نفسه، وبالتالي تحدد هذه الهوية الدور الذي يعتقد المثقف النقدي أنه منوط به، على قاعدة الوعي بهذه الإمكانيات النقدية وقدرتها على تغيير المجتمع، وتحويل الانتماءات الثقافية التي يعتبرها سلبية إلى أخرى نقيض لها، معتقداً أن هذه المساهمة النقدية تقوم على إعادة تحديد الهوية بصورة أكثر فعالية في حال اختراقه النظام الثقافي والذهنية التي تعبر عنه.

بذلك يسعى لتكوين هوية يعتقد أنها مثالية، وبما أن الآخرين ينظرون إلى هوية المثقف النقدي بوصفها هوية اختراقية مدسوسة من الخارج، فإن رفضها بالحفاظ على النظام الثقافي والتمسك به بشكل أكبر في مواجهة الغزو الجديد، يجعل مهمة المثقف النقدي مهمة مستحيلة إلى حد كبير، وفي الوقت الذي يعتقد المثقف النقدي أن هويته الجديدة التي ينتمي إليها قادرة على القيام بالاختراق، وأن انتماءه إلى الهوية الأصلية يدفعه إلى القيام بهذه المهمة، تنشأ أزمة الهوية عند المثقف النقدي، ففي الوقت الذي يعتقد أنه ينتمي إلى هويتين يجب أن تصلح أحدهما الأخرى، يجد نفسه لامنتمي في إطار ضغط البنى الثقافة الداخلية، والاستلاب الذي يعانيه جراء الهوية الخارجية الملتبسة، بذلك يبقى قلقاً بين هويتين، واحدة يفكر بها، وأخرى يعيشها في مجتمع ينتمي إليه.