كيف سيطرت القيادة الفلسطينية على التجمعات الفلسطينية قبل أوسلو؟

تحتاج التجربة الفلسطينية إلى الكثير من المراجعات، التي منع تحققها سرعة الأحداث وعدم رغبة القيادة الفلسطينية بكل طيفها السياسي القيام بها. ولكن إذا الوضع الفلسطيني يريد الخروج من المأزق الذي يعيشه، فإن عليه أن يخضع كل شيء للنقاش، فالوضع الفلسطيني يحتاج إلى ثورة في الواقع وثورة في المفاهيم، ومراجعة قاسية للتجربة التي أوصلتا إلى ما وصلنا إليه. سنحاول في هذه الأسطر إلقاء نظرة سريعة على تجربة منظمة التحرير وخصوصيتها، لعلها تفتح النقاش لقراءة نقدية للتجربة الفلسطينية بتاريخها وخصوصيتها.

في التجربة الفلسطينية الحديثة يأخذ النظام السياسي مفهوماً يتناسب مع خصوصية التجربة الفلسطينية، وإذا كان مفهوم النظام السياسي يشير بشكل أساسي إلى الطريقة التي تتم بها إدارة السلطة السياسية في الدولة من خلال تداول السلطة السياسية عبر التنافس السياسي، أو عبر وقف عملية التداول بوجود سلطة شمولية تحتكر الفعل السياسي. فإننا نستخدم النظام السياسي بمعنى شبكة التفاعلات السياسية الفلسطينية ـ الفلسطينية العابرة للتجمعات الفلسطينية في أماكن تواجدها. وإن كان هذا لا يتطابق مع ما استقر عليه المفهوم في علم السياسة أو علم الاجتماع، فإنه يتطابق مع التجربة الفلسطينية وخصوصياتها وتشوهاتها.

خضع الحقل السياسي الفلسطيني لتأثيرات متباينة بحكم الشتات الفلسطيني الموزع على الدول العربية، إضافة إلى إسرائيل والضفة الغربية وغزة، كل هذه الأماكن معنية بالتفاعلات التي تجري داخل الحقل السياسي الفلسطيني بحكم انتمائها الفلسطيني. أجرينا بعض التحويل لمعنى المصطلحات من أجل تكييفها مع الحالة الفلسطينية الخاصة، وبدون ذلك تكاد التجربة الفلسطينية تكون مستحيلة في إطار التحليل النظري للدول الطبيعية، لأن فيها من الخصوصيات والتشوهات الكثير الذي يتصادم مع نماذج التحليل المستقرة التي أسست لها العلوم السياسية والاجتماعية.

وهذا لا يعني أن التجربة الفلسطينية كانت ضد قوانين الاجتماع البشري، بل على العكس كانت في سياقه، وكونها تجربة حصلت وتحولت إلى حقائق تاريخية، فهي جزء من تجربة الاجتماع البشري، فالحقائق السوسيو ـ تاريخية قد جعلتها ممكنة، وبالتالي قابلة للدراسة. لا يقتصر تاريخ الشعوب على تاريخ الأفكار فحسب، بل هو أيضاً تاريخ البشر الذين يصنعون هذا التاريخ، وتاريخ فئاتهم الاجتماعية المكونة لهذا الشعب. ولذلك لم تكن التجربة الفلسطينية هي تحولات في الأفكار والمطالب السياسية، بل كان دائماً هناك بشر دفعوا ثمن تجربتهم وأثروا فيها كما أثرت فيهم. وإذا كانت جلّ الدراسات التي عالجت الوضع الفلسطيني ركزت على تحولات الأفكار على الساحة الفلسطينية، فهناك عدد متواضع من الدراسات التي ربطت هذه التحولات بالبشر الحقيقيين، حتى تلك الدراسات التي اعتبرت نفسها منحازة إلى طبقات معينة.

وما يحتاج إلى دراسة اليوم، هو شبكة العلاقات بين البشر والأفكار التي شغلت الحقل السياسي الفلسطيني وما أثرته عليهم، وما أثروه بها، مستندة إلى مجموعة العلاقات الفلسطينية الداخلية والتي شكلت نسقاً من الأداء السياسي، رغم افتقاد الفلسطينيين إلى جغرافيا موحدة، أو آليات توحيد، فإن التأثيرات كانت باتجاه واحد إلى حد كبير. في تجربة منظمة التحرير قبل الدخول تأسيس السلطة الفلسطينية، عانت الساحة الفلسطينية علاقات عنف وتسلط، لقد تسلطت القيادات الفلسطينية على الشعب الفلسطيني دون أن يكون هناك إمكانية أن يحاسبها هذا الشعب أو يؤثر عليها. وقد يبدو هذا التوصيف غير صحيح ومجافي للحقيقة، لافتقاد القيادات الفلسطينية لأدوات السلطة العنيفة الإكراهية، السجون، الشرطة، الجيش...

ولو أنها استخدمت هذا النوع من السلطة على أجزاء من الشعب الفلسطيني في تجربتي الأردن ولبنان، وبعد ذلك سلطة الحكم الذاتي، ليس هذا العنف الذي نقصده ولا تلك السيطرة. فبدلاً من استخدام أشكال العنف الظاهرة والتي لم تكن ممكنة في الساحة الفلسطينية قبل تجربة أوسلو، أي أشكال العنف الممأسسة للسلطات القائمة، فقد تم استخدام أشكال العنف الخفية أو الرمزية. فقد استطاعت القيادات الفلسطينية اختراق التجمعات الفلسطينية بعلاقات السيطرة، بواسطة ممارسات متعددة الأشكال، ممارسة السيطرة في عدد من الميادين، وفرت لها سلطتها على التجمعات الفلسطينية، مع خضوعها مادياً لسلطات الدول التي تعيش على أرضها. وقد وفرّ لها احتكار الرموز الوطنية إمكانية هذا التأثير بسلطتها الرمزية على الآخرين، من خلال إخراجهم من هذا الحقل الوطني في أوقات الخلاف معهم باعتبارهم ضد الحقوق الوطنية الفلسطينية. وهي بذلك مارست أنماطاً مختلفة من السلطة على التجمعات الفلسطينية من أجل توكيد سيطرتها، كسيطرة مشروعة.

كانت هذه السيطرة هامة لهذه القيادات بقدر ما تؤمن ممارسة السيطرة «بلطف»، إذا صح التعبير، لعدم امتلاكها أدوات العنف الإكراهية، فالعنف يمارس بشكل خاص في «الحقل الرمزي» ولكنه عنف فعّال. فعلاقات السيطرة ليست علاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية وعنفية فحسب، بل هي علاقات قوة وسيطرة على المعاني والرموز، وبذلك تكون السلطة التي استخدمتها القيادة الفلسطينية، هي السلطة بالمفهوم الذي تحدث عنه ماكس فيبر والتي تعني «القدرة على فرض الإرادة على الغير».

ومن أجل إعطاء هذه السلطة معناها الرمزي حتى مداه، دعمت القيادات الفلسطينية منظمة التحرير بوصفها تنظيمها البيروقراطي الذي يوفر لها أدوات السيطرة الرمزية بشكل أساسي، إضافة لفصائلها الخاصة. ولأن كل تنظيم بيروقراطي هو نسق تنظيمي يقوم على آليات توازن، وعلى وجود سلسلة من الحلقات المفرغة المستقرة نسبياً، ويتم تقويتها في مناخ من التعميم والمركزية. وفي هذه المناخات يتبارى الأفراد في خدمة التنظيم من خلال خدمة الفرد الذي يقرون له بالولاء، ويساهمون بالتنظيم من خلال هذا الولاء، والذي يشكل الأصول الحقيقية للعلاقة بين القائد والكادر، وليس من خلال النظام الداخلي النظري. وضمن هذا المنظور الاستراتيجي للعلاقة بين القيادة والكوادر، ينبغي النظر إلى السلطة في التنظيم وكأنها ملكية شخصية. ومن هنا فإن معطيات القوة ليست معطيات يمكن للجميع الوصول إليها تنظيمياً في التجربة الفلسطينية منظمة وفصائل فحسب، بل هي حصراً لصاحب الملكية لهذا المنصب، وبالتالي يبقى توازن القوة على حالة لزمن طويل. فليس من الجديد أن نقول أن السلطة علاقات قوة، وعندها لا تكون تبادلية، فإنها قوة ينال أحد الأطراف فيها أكثر من الطرف الآخر، بحيث لا يفقد منصبه أبداً.

وهذه العلاقات هي التي حكمت منظمة التحرير في ائتلاف فصائلها، وأعطت تناسب قوة غير قابل للاختراق بين الفصائل الكبيرة والصغيرة من داخل الإطار ذاته, وكذلك كان التوازن داخل كل فصيل على حدة، وهذه المعادلة التي كانت إبداعية في نهاية الستينات للتمثيل السياسي الفلسطيني في إطار منظمة التحرير، تكلست في السبعينات والثمانينات وأصبحت تنتج نفسها بشكل دوري، ولكن بطريقة أردأ، وعند توقيع اتفاقات أوسلو كانت هذه البنية على حافة انهيار. من الضروري القيام بقراءة نقدية للتجربة الفلسطينية الحديثة، لتشخيص المشكلات التي عاشتها والتي ما تزال تؤثر عليها إلى يومنا هذا، وهذه المراجعة يجب أن تنقسم إلى قسمين: الأول، مراجعة التجربة الفلسطينية في تاريخيتها ومعطياتها القاسية، والقسم الثاني لا يقل أهمية عن الأول، وهو الأداء السياسي الفلسطيني الذي شابه الكثير من العيوب، بحكم العلاقات الداخلية المنتجة للقرار السياسي الفلسطيني والمكونة للحقل السياسي الفلسطيني، وهي العلاقات التي جرت عليها تحولات كبيرة خلال ما يقرب من خمسة عقود من عمر منظمة التحرير الفلسطينية، مكان التفاعلات الفلسطينية الرئيسي بين القوى السياسية المشكلة للحقل السياسي الفلسطيني إلى ما قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، حيث أصبحت مكان التفاعل الرئيسية وهو ما يحتاج إلى معالجة أخرى.