"ابنتي خطيرة .. "

زمن برس، فلسطين: وضعت الطعام على الأرض، وتحلقت العائلة حول وجبة "المقلوبة"، لم تكن شهية كما عهدها الجميع، مرة وحزينة، لقمة واحدة كانت كفيلة بأن تنهار العائلة بأكملها، ليبكي الابن الأكبر والأم والأب، لتبكي الفتيات الصغيرات، لقمة واحدة كفيلة بأن تحكي القصة كلها.
هناك صوت شقي لم يعد ينير غرف المنزل، ابتسامة وضحكة اختفت دون إنذار، ملاك صغير كان يقفز من كنبة لكنبة اختفى، وتحول النور إلى عتمة منذ ذلك الاتصال.
.......
لم يتوقع أبو يوسف ذاك الصباح أن هاتفا واحدا فقط كفيلا بتغيير مستقبل طفلته ملاك الخطيب (14 عاما) للأبد، جاء الاتصال سريعا: "ابنتك محتجزة لدينا، تم اعتقالها على طريق ستين بالقرب من قرية بيتين- رام الله"، كيف ولماذا؟ لم يكن الوقت كافيا للأسئلة.
بدمعتين وقدمين تعبتين توجهت العائلة إلى نقطة الاحتجاز، "مرفوضون أنتم من لقاء ابنتكم" وجه الجندي الواقف على الباب أوامره، "بأي قانون يمنع الأهل من رؤية صغيرتهم؟"، تساءل أبو يوسف، ولكن لا مجيب، بعد ساعات من الانتظار يأتي القرار كقطرة ماء وسط الصحراء؛ "ثلاث دقائق .. الأم والأب فقط".
كانت أقصر ثلاث دقائق في حياة الأم، وأطولها في حياة الأب فكيف له أن يشاهد ابنته وحيدة بقبضة جنود مدججين بالسلاح، طفلة بربيعها الرابع عشر، تجلس منكبة على ذاتها، تبتسم بخجل لوالديها :"أنا بخير.. لا تقلقوا".
- "أين ملابس المدرسة؟"
- "أخذوها مني.. لا أعرف لماذا!"
- "هل كان بحوزتك سكين؟"
- "لا..."، فحدق بها المحقق، وارتجفت أوصالها.
وانتهت .. أطول وأقصر ثلاث دقائق، "طفلتي مرتعبة، طفلة صغيرة، خائفة ومذعورة، نظرة.. كلمة بتخوفها، وإلا ليش بدها تعترف ع إشي مش عاملته؟ كان بيدها قلم وكتاب وورقة، ستعود بعد الامتحان إلى البيت".
جاء اللقاء الأول بعد تأجيل المحكمة وسط البرد والمطر، ومن بين الضباب ظهرت طفلة صغيرة لوالديها، مكبلة وترتجف بردا، قطعة قماش فقيرة ووحيدة تلف جسدها، بشفتيها ابتسمت، كما لو أنها كبرت ثلاثين سنة أخرى، أصبحت كبيرة، كبيرة جدا، ويتساءل الحضور :"كيف لطفلة صغيرة أن تهدد أمن دولة كاملة؟"، وحكم القاضي باعتقالها لشهرين، ارتجف جسدها الصغير، ورقرقت عيناها، فاللقاء ليس بقريب.
"خطيرة طفلتي... 14 عاما فقط، وسجلوها خطرا على أمن دولة.. ابنتي خطيرة!.. والجندي المدجج بالسلاح ليس كذلك! "
مرام سالم- جمعية المرأة العاملة