موقع القضية الفلسطينية في العالم العربي اليوم
منذ ولادتها كانت المشكلة الفلسطينية القضية المركزية في العالم العربي، سواء كان ذلك عن حق أو عن باطل، لقد تضامنت الشعوب العربية منذ ما قبل النكبة مع القضية الفلسطينية بإرسال متطوعين للمشاركة في الصدامات التي جرت على أرض فلسطين، وكانوا قادة في الثورات الفلسطينية وقدموا شهداء على أرض فلسطين. وعندما تم إعلان دولة إسرائيل تدخلت الدول العربية بجيوشها، على تواضع هذه الجيوش وقدراتها وارتباطاتها، وكانت الهزيمة المدوية الأولى التي كرست تفوق إسرائيل على الدول العربية. وبسبب مكانتها المركزية في قليب العالم العربي وفي وجدان شعوبه، شكلت تداعيات هزيمة العام 1948 زلزالاً في الدول العربية المحيطة، خاصة مصر وسوريا. لم تعد دول المنطقة كما كانت عليه قبل نكبة فلسطين. لقد شكلت النكبة نقطة تحول في مسار المنطقة ونقطة تحول في الخريطة السياسية العربية، فقد تم الإطاحة بالعديد من أنظمة الحكم في المنطقة على خلفية الهزيمة التي جرت في فلسطين العام 1948.
وقد اتخذت هذه الإطاحة شكل الانقلابات العسكرية في كل من مصر وسوريا، وكانت خلفية هذه الانقلابات ما جرى في فلسطين وما كشفة من فساد داخل هذه الدول وبناها العسكرية والسياسية. لم تكن هذه المتغيرات تتفاعل على مستوى الانقلابات وتحركات الجيش فحسب، فقد كان هناك استياء شعبي واسع من الأنظمة ومن دورها المخزي في حرب فلسطين. وهذا ما جعل الانقلابين في المنطقة يركبون شعارات القضية الفلسطينية، وتحرير الأرض وغيرها من الشعارات التي كانت في أغلبتها ذرائعية لتبرير سياسات داخلية قاسية، تحت عنوان التضحية من أجل المعركة القادمة، ولكن كانت هذه الشعارات شكلية أكثر منها سياسات حقيقة تضع القضية الفلسطينية في محور تحركاتها وسياساتها.
غيّر إقامة إسرائيل وولادة القضية الفلسطينية بعد النكبة كزلزال معالم المنطقة، وبات الهدف المركزي للجميع في المنطقة القضاء على «السرطان الصهيوني» التوسعي. كان الهدف الذي ولد في تلك اللحظة السياسية هي استعادة الأراضي التي احتلتها العصابات الصهيونية وأقامت عليها دولتها الدخيلة على أراضي المحتلة عام 1948. أعطى المد القومي الذي ولد مع انقلاب العام 1952 في مصر الأمل في الوصول إلى الهدف المنشود بتحرير فلسطين المغتصبة، فقد ظهرت مصر كتحدٍ ليس فقط لإسرائيل، بل وللهيمنة الامبريالية التي وراءها أيضاً.
وجاء أول اختبار ناجحاً، عندما تصدت مصر للعدوان الثلاثي على مصر، ما زاد الأمل في وضع نهاية للقضية الفلسطينية بتحرير الأراضي المحتلة بعد فشل العدوان الثلاثي من دولتين عظميين إضافة لإسرائيل، وهذا ما ولد مدّ شعبي عارم في المنطقة قاد في العام 1958 إلى دولة الوحدة بين مصر وسوريا بفعل ضغوط شعبية، سورية تحديداً. وكانت هذه الذروة في المزاج الشعبي الرافض لوجود إسرائيل عنوان التغيرات القادمة، وإعادة الاعتبار لمكانة العربي واستعادة لحقوقه، ولكن لم تكن هذه هي الحال في الواقع العربي في تلك المرحلة، جاء الاقع ليقول كلاماً مغايراً. لم تعش الوحدة العربية طويلاً فقد تم الانفصال بعد أقل من ثلاث سنوات من وحدة متعثرة لم تُقام على أسس صحيحة، وأخذ التداعي من جديد يصيب العالم العربي، حيث حرب اليمن تستنزف مصر الناصرية، والانقلابات المتتالية تستنزف سوريا، لتجد المنطقة نفسها في العام 1967 أمام هزيمة مدوية جديدة من «الدولة المصطنعة» إسرائيل، وهي الهزيمة التي توسعت فيها إسرائيل بحوالي خمس أضعاف المساحة التي كانت تشغلها قبل الحرب. هذه المرة، لم تحتل أراضي فلسطينية فحسب، بل أراضي مصرية وسورية وأردنية (كانت الأردن ضمت الضفة الغربية إلى المملكة الهاشمية) أيضاً. بالنسبة للدول التي تم احتلال أجزاء من أرضها لم تعد قضيتها قومية، التضامن والقتال إلى جانب فلسطين فحسب، بل باتت مشكلة وطنية لأن جزء من أرض الوطن بات محتلاً.
ولّد هذا قواعد جديدة للتعامل مع العدو، إسرائيل، ووضع قواعد جديدة للحل في المنطقة، فلم يعد المطروح تحرير كامل الأراضي الفلسطينية، وما بات مطروحاً هو «إزالة آثار العدوان» وهذه الإزالة باتت الهدف النهائي الوطني كما استقرت في تجربة التسوية المصرية ـ الإسرائيلية التي قامت على استعادة الأراضي المصرية فحسب والانسحاب من القضية الفلسطينية وهذا ما كان في كامب ديفيد وما تلها، حيث اعتبرت مصر الرسمية أن استعادتها لسيناء يعني نهاية الصراع مع إسرائيل.
وما عزز هذا الاتجاه هو ولادة التسوية في مطلع التسعينات في مدريد على قاعدة المسارات الثنائية، أي حلول ذات طابع ثنائي بين إسرائيل بين كل دولة عربية لها معها مشكلة أراضي محتلة أو غيرها. هذا ما كان في الاتفاق الإسرائيلي ـ الأردني ومفاوضات المسارات الثنائية الفلسطينية والسورية مع إسرائيل وتنافسهما. كل ذلك غيّر من مكانة القضية الفلسطينية في قلب العالم العربي، لم يأتِ التغيير فجأة، بل اتخذ مسارات وانعطافات مختلفة على مدى عقود للوصول إلى تكريس المطلب الوطني / القطري بوصفه نهاية الصراع مع إسرائيل، ولأن كل طرف عليه أن يحل مشاكله لوحده ولد عربياً مقولة «نحن نقبل ما يقبل به الفلسطينيون» وكان هذا ذروة الانسحاب من القضية الفلسطينية وتكريس الحل القطري / الوطني بوصفه طارد للقضية الفلسطينية من ساحة العمل السياسي القطري واقتصار العلاقة معها على التضامن بوصفها قضية خارجية ذات أبعاد إنسانية. وتأتي الثورات العربية التي هبّت على العالم العربي لتؤكد هذا الانسحاب، فقد تراجعت الشعارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية عند الثورات، وفي الكثير من الحالات غابت.
انشغلت الثورات العربية بالقضايا المحلية، خاصة وأنها تعاني من فترة انتقالية، ستبقى منشغلة فيها بقضاياها الداخلية لفترة لا أحد يعرف كم ستطول. ولا شك بأن الثورات العربية ستكرس التغيرات التي تراكمت خلال العقود الماضية، ومهما كان التضامن مع القضية الفلسطينية، سيبقى التعامل معها بوصفها قضية خارجية، لقد خرجت القضية الفلسطينية من كونها مكوناً سياسياً داخلياً للسياسات العربية، وهذا تطور غير قابل للانعكاس.