فقاعة الصابون في غزة!
فجأة ودون سابق إنذار، تنطلق التصريحات "النارية" من غزة، وكأنها على موعد مع الانتخابات الرئاسية الحاسمة في مصر، أو كمحاولة لقطع الطريق مجدداً على السياق التنفيذي لاتفاق المصالحة الداخلية، وفي كل الأحوال، فإن ما يلاحظ على تلك التصريحات هو طابعها الفكري / الأيديولوجي، الذي يحدد أن الهدف الأساسي منها هو الداخل الفلسطيني / العربي _ الإسلامي، وليس العدو الخارجي، الإسرائيلي أو حتى الغربي. قد تكون مثل هذه التصريحات التي تخرج عن قيادات حركة حماس، في غزة، والتي تحكمها منذ خمس سنوات، ميدانياً، "معتادة" على الأقل من قبل أصحابها، أي أنه كان هناك مستوى من "التهويل الإعلامي" بنقلها أو تناقلها، بهدف إثارة الرأي العام في هذه اللحظة بالذات، لكن رغم ذلك، فإن أول ما يمكن أن يقال فيها إنها تعبر عن عقلية سياسية، تبالغ كثيراً، أولاً في حجم غزة، الذي تعتبره مقرراً للشأن الفلسطيني الوطني، وثانياً لمستقبل المنطقة، على المستويين العربي والإسلامي. فغزة ربما تكون - وقد نجحت بالفعل على مدى عدة سنوات - معطلاً للمشروع الوطني بوجهته المعروفة، ونجحت في أن تكون معترضاً على القيادة الفلسطينية، لكنها لم تدرك أموراً مهمة للغاية، منها:
أنها لم تشكل نموذجاً مقنعاً لأحد بجدارتها في أن تكون بديلاً قيادياً أفضل، ثم في أن تقدم "نموذجاً" للدولة الفلسطينية الممكنة، فضلاً عن نموذج الدولة الإسلامية، التي يمكن أن تغري الشعوب العربية، لا على اختيار الإسلاميين في الانتخابات، ولا على إقناع من يصل منهم إلى الحكم، بالسير على طريق النموذج الحمساوي في حكم غزة. تنسى غزة، ليس فقط أنها جزء من فلسطين، ولكن في لحظة "غرور" أنها جزء صغير من الوطن العربي، ونقطة من بحر المحيط الإسلامي، وهي حتى لو افترضنا جدلاً أنها اجترحت المعجزات، فانه لابد من القول، أولاً إن ما حققته من فعل مقاوم على مدار سنوات طويلة كان في سياق الكفاح الوطني، الذي شارك فيه كل الفلسطينيين، ثم حتى أن الحديث عن إنجاز الإسلاميين المحدد في إطارهم، فانه لم يكن إلا بسبب دعم أطراف عربية وإسلامية عديدة، ليس ابتداء من سورية وقطر، مروراً بإخوان مصر والأردن وحتى الجزائر، وليس انتهاء بإيران .
ثم ماذا حدث في غزة؟ أقامت حركة حماس "سلطة" أو حكومة، أو حتى نظاماً، لابد من القول هنا، إن هذا الحكم قد شكل عبئاً سياسياً على الفلسطينيين، على مدار السنوات الخمس الماضية، وان الفلسطينيين، ينظرون إلى يوم الانقلاب "الحسم" كما يحلو لـ"حماس" وصفه، على أنه يوم أسود في تاريخ الفلسطينيين، يضاف إلى أيام النكبة والنكسة، وحتى لو ذهبت بعيداً في إقامة "الدولة الفلسطينية" في القطاع، فإن ذلك سيبدو في نظر الفلسطينيين بملايينهم الأحد عشر خيانة بكل معنى الكلمة، ثم هل يعني كل هذا أن غزة باتت تقود العالمين العربي والإسلامي؟
ربما أقامت غزة أول حكم إخواني في المنطقة، لكنها لم تقم أول حكم إسلامي، بعد الحرب العالمية الأولى، أي بعد هدم الدولة العثمانية، فعلى الأقل أقام إسلاميو إيران دولة دينية / شيعية منذ نحو ربع قرن، ثم أقام إسلاميو تركيا السنة حكماً إسلامياً، دون أن يعني ذلك إقامة الإمبراطورية الإسلامية، أو دولة الخلافة، التي سيحتفي حزب التحرير يوم الاثنين القادم بذكرى زوالها، قبل تسعين سنة، وحتى لو فاز مرشح الإخوان المصريين في انتخابات الرئاسة، بعد أيام، وذهب بعيداً في هذا الطريق، أي طريق إقامة دولة الخلافة، فإنه سبق لمصر الفاطمية أن أقامت دولة دينية، دون أن تنجح في قيادة مسلمي الدنيا، كما لم تنجح الدولة القومية الناصرية، التي ربما يتطلع الإخوان إلى وراثتها الآن، في توحيد العرب تحت قيادتها وإقامة الدولة العربية الواحدة.
إقامة الدولة المسلمة الواحدة، في كل أرجاء الوطن العربي، فضلاً عن الإسلامي، لا تبدو أكثر من وهم أيديولوجي إذاً عند كثير من الإسلاميين، الذين لا يقرأون جيداً، لا التاريخ السياسي الحديث للمنطقة، ولا التطورات السياسية في العالم، الذي يتجاوز مفهوم الدولة القومية، فضلاً عن أحلام الدولة الإمبراطورية، في عصر العولمة الذي يتشكل فيه نظام عالمي جديد بعد انتهاء الحرب الباردة. لكن هذه الأوهام، في الحقيقة تتحول إلى كابح يقهر تطلعات الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني، باتجاه الحريات العامة والمدنية، فهي تضع العصي مجدداً في دواليب المصالحة الداخلية، وتعيق إنهاء الانقسام، كما أنها تزيد من إحباط الفلسطينيين، الذين يتطلعون إلى الانعتاق من الاحتلال أولاً، وعدم ربط أو اشتراط، هذا التحرر بطبيعة النظام السياسي الذي ستخضع له الدولة الفلسطينية المستقلة، لأن من شأن ذلك، أن يعطل جمع الطاقات الشعبية كلها في معركة التحرر الوطني.
ثم إن غزة فيها مليون ونصف المليون مواطن، يقررون معا نظام حكامها "الداخلي" حتى لو نجحت كل مؤامرات فصل غزة عن الوطن الفلسطيني، وسلخ أهلها عن شعبهم في داخل الوطن وخارجه، وقوة غزة في وحدتها الداخلية، التي لا تكون إلا عبر "نظام" تعددي حديث وديمقراطي، وإذا كانت الشرطة في خدمة الشعب فإن عيد الشرطة يجب أن يكون عيداً وطنياً، لا يسترجع ذكرى الانقسام، وقد كان عيد الشرطة المصرية، على سبيل المثال، مناسبة، تحول بعدها، إلى عيد للثورة، يوم الخامس والعشرين من يناير من العام الماضي. وستظل القدس هي عاصمة فلسطين والفلسطينيين، وستظل غزة تجد قيمتها ودورها، طالما سارت على طريق الكفاح الوطني، ولن تنجح أية محاولات، تأخذ بها إلى خارج السياق الوطني أو القومي العربي، وإذا كانت أغلبية الفلسطينيين والعرب، مسلمين، فإن الإسلاميين إن لم يحكموا وفق السياق المدني، الحديث، فإنهم سيجدون أنفسهم: إما قوة نظام حكم متسلط أو مستبد، تستند إلى أجهزة الأمن والى الحزب الحاكم في حكمها للناس وتحكمها بمصائرهم، كما كان حال الأنظمة الفردية التي تتساقط تباعاً هذه الأيام، أو قوة سياسية تتلاشى وتتآكل، بحث تنتفض عليها الشعوب مجدداً وبأسرع مما يتخيل الواهمون أو المتشددون منهم، ذلك أن الحكم الفظ أو غليظ القلب ما هو إلا وصفة لانفضاض الناس من حوله، أما الشعارات فلن تنفع أحداً، ولابد من نصيحة للإخوان بالذات، إن ابتعدوا عن إطلاق فقاعات الصابون الانتخابية، ولا تخاطبوا جمهوركم المتحزب لكم، فذلك دليل ارتباك داخلي، فضلاً عن كونه قيداً يكبلكم في الحكم، ومفتاحاً لحشد الآخرين ضدكم، منذ اللحظة الأولى، وبوابة تشكيل قوة معارضة سياسية فورية لكم، حتى قبل أن تصلوا إلى الحكم.