ضغوط صاخبة.. ومفاوضات هادئة!!
فاجأتنا دوائر البيت الأبيض الأميركي يوم أمس، بتصريح تؤكد فيه أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، سيضع على رأس اهتماماته في ولايته الثانية، ملفات السياسة الخارجية وفي القلب منها، ملف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، غير أنه لن يتدخل شخصياً، كما فعل أسلافه في البيض الأبيض، في هذا الملف، وسيترك الأمر للطرفين بتشجيع أميركي لاستئناف هذه العملية، ويبدو أن هذا التصريح يجيء رداً على تحليلات أميركية من خلال وسائل الإعلام ومراكز البحث، بأن تعقد ملف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، ووصول الإدارة الأميركية إلى قناعة مؤكدة، عدم قدرتها على جسر الهوّة بين الموقفين، الفلسطيني والإسرائيلي، حول ملف المفاوضات، خاصة في ظل التعنت الإسرائيلي بشأن العملية الاستيطانية، وعدم استجابة الجانب الفلسطيني لكافة الضغوط لاستئناف المفاوضات مع استمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي المثابر، الأمر الذي دفع بإدارة أوباما –
حسب هؤلاء المحللين في مراكز البحث والدراسات- إلى تجاهل ملف المفاوضات نسبياً، ومنح اهتمام متزايد للسياسة الخارجية الأميركية في منطقة جنوب شرق آسيا، حيث بالإمكان تسجيل نجاحات محتملة على ملفات تلك المنطقة على ضوء المتغيرات في ساحة كوريا الشمالية، وهذا أفضل من الرهان على منطقة متحولة في ظل الربيع العربي وجمود العملية السياسية في الشرق الأوسط. تذكير واشنطن، بالاهتمام بالملف الفلسطيني – الإسرائيلي، ليس به جديد، إذ إن اهتمام إدارة أوباما بهذا الملف استمر لشهور قليلة بعد دخول الرئيس للبيت الأبيض، ثم ما لبث أن تراجع بعد عدة أشهر بعدما تبين أن أي تقدم على هذا الملف، يعني الصدام المباشر مع حكومة نتنياهو التي تعرقل استئناف العملية التفاوضية، وعندما حاول الرئيس الأميركي أن يتدخل شخصياً، رأينا كيف وقف بعض قادة الكونغرس، كما اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، لتذكيره بأن يلزم حدّه، وهكذا فعل، طمعاً في دعم أوسع لحملته الانتخابية لولاية رئاسية ثانية، ولم يكن في ظل هذه الصورة، ما صدر عن هذه الإدارة من اتهام للرئيس أبو مازن بعرقلته العملية التفاوضية وفق ما جاء في وسائل الإعلام، من دون أن تنفي إدارة أوباما صدور هذا الاتهام، من قبلها، بالرغم من محاولات البعض الفلسطيني نفي مثل هذا الاتهام، والمقصود هنا تصريح صائب عريقات بهذا الشأن، وظلت واشنطن صامتة على هذا الاتهام،
إلى أن جاء تصريح البيت الأبيض المشار إليه في بداية هذا المقال. ومن الطبيعي أن تخشى الإدارة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو من نجاح أوباما بولاية ثانية، ليس لأنه أقل ميلاً لدعمها، ولكن لأنه خلال الولاية الثانية يصبح أقل حرجاً وخضوعاً لضغوط اللوبي الصهيوني ورجالات الكونغرس الموالين للدولة العبرية، وبالتالي فإن حكومة نتنياهو أكثر رغبة في وصول الحزب الجمهوري برئاسة رومني إلى البيت الأبيض، يعلم أوباما هذه المعادلة تماماً، ومن هنا، تأتي المواقف المتتالية في الفترة الأخيرة، للتأكيد للجانب الإسرائيلي على أن شيئاً لن يتغير عما كان الأمر عليه في الولاية الأولى، إذا ما استمر أوباما في البيض الأبيض لولاية ثانية. تصريح الرئيس عباس الملتبس حول استئناف المفاوضات إذا ما قامت إسرائيل بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين وفقاً لاتفاقات سابقة، والسماح بدخول الأسلحة الخفيفة إلى قوى الأمن الداخلي الفلسطيني، جاء على الأغلب نتيجة لما يقال عن جهود أميركية – مصرية – أردنية للضغط على الرئاسة الفلسطينية من أجل استئناف المفاوضات، وبهذا الصدد، وحسب معلومات صحافية، فإن رئيس المخابرات المصرية مراد موافي، كان قد قام بزيارة إلى إسرائيل مؤخراً، وسمع منها أن أي استئناف للمفاوضات يجب ان يتجاهل ملف الاستيطان تماماً، لذلك كان رد الرئيس عباس بأنه بالإمكان عقد "لقاء" مع نتنياهو، وليس مفاوضات، حوار وليس مباحثات، إذا لم يتم تناول الملفات المهمة، ويقال أيضاً حسب هذه المصادر، أن موافي سيستمر في التباحث مع الجانب الإسرائيلي حول تسهيل دخول أسلحة أردنية، وأسلحة أخرى وصلت إلى الأردن من دول صديقة، لمد أجهزة الأمن الفلسطيني بها، في وقت عينت الولايات المتحدة منسقاً أمنياً لها في الضفة الغربية، الأمر الذي يمنح هذه التسريبات الصحافية، صدقية في ظل عدم توفر المعلومات الرسمية، كما أن حديث الرئيس عباس عن مسألة الأسلحة في هذا الوقت بالذات يدعم هذه الإشارات الصحافية.
ولا يمكن تجاهل رد الفعل الأميركي على توجهات فلسطينية محتملة نحو الأمم المتحدة لنيل الاعتراف "بدولة غير عضو" في حال استمر الجمود في العملية التفاوضية، ويظهر من متابعة مواقف الدول العربية، أن ليس هناك دعم عربي حقيقي لهذا التوجه الفلسطيني، ربما لعدم عرقلة وصول أوباما إلى البيض الأبيض لولاية ثانية،
وفي هذا السياق، فإن البعض يعتبر الحرب الإعلامية من خلال وسائل الإعلام في واشنطن على شخص الرئيس أبو مازن، في هذا الوقت بالذات، يأتي كتهديد فاعل لإجبار عباس –كما يتوقع هؤلاء- على الاستجابة للضغوط الأميركية هذه. لقد تعودنا في الساحة الفلسطينية، على أن الاستجابة للضغوط، لا يوقفها، ولا يحقق مكسباً حقيقياً، بل إن شهية الجهات الضاغطة تتزايد من أجل المزيد من الضغوط، والاستجابة لهذه الضغوط، قد يريح الجهات الضاغطة هذه، لكنها تعيث خراباً في الساحة الداخلية الفلسطينية، ناهيك عن أنها تدعم الموقف الإسرائيلي إزاء الملفات الخطيرة وعلى الأخص الاستيطان والمصادرة، هذا هو الدرس المستخلص من تجربة الأعوام الماضية، وعسانا أن لا نقع في فخ الاستجابة لهذه الضغوط تحت أية ذريعة، أو تحت أية صياغة، فما عاد الوضع الفلسطيني يحتمل المزيد من الصياغات الإبداعية المبتكرة، ومن هنا يتوجب التمسك بموقفنا الثابت، وهو موقف الحد الأدنى، وعلى قاعدة وقف كامل وشامل للعملية الاستيطانية، والاعتراف بحدود الرابع من حزيران 1967 كحدود للدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، والالتزام بقرارات الشرعية الدولية، مع اعتبار خارطة الطريق ومبادئ المبادرة العربية وقرارات الأمم المتحدة هي المرجعية الأساسية للمفاوضات. وإذا كانت واشنطن قد أخذت علماً ودرساً من تجربة ولاية أوباما الأولى فيما يتعلق بالعملية التفاوضية على الملف الفلسطيني – الإسرائيلي، أنه في ظل حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل لا يمكن أن تنجح الجهود لاستئناف العملية التفاوضية، فالأولى بالجانب الفلسطيني أن يتخذ من هذه التجربة درساً مشابهاً، أي أن لا إمكانية واقعية لعملية تفاوضية فاعلة في حكومة نتنياهو، ما يستوجب عدم الرضوخ لأي ضغوط، لأنها بلا جدوى في كل الأحوال!!