احترام إرادة الناخب المصري

رغم صعوبة الظرف الذي تجري في ظله الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة المصرية، إلا أن مصر اختارت اقتحام الصعب، والسير بثبات على الطريق الديمقراطي الصعب والوعر، وما هي أيام حتى يكون نحو خمسين مليون ناخب مصري، على موعد مع التاريخ، بكل معنى الكلمة لاختيار أول رئيس مدني للجمهورية المصرية المقامة، منذ ستين سنة. وأيا تكن النتيجة، فان مصر ستكون قد شقت طريقها باتجاه إقامة النظام الديمقراطي، حتى لو تم انتخاب رئيس ذي خلفية عسكرية _ الفريق أحمد شفيق، أو رئيساً يمثل حزباً حاكماً، قد يعني انتخابه، إطباق حزبه على كل مقاليد السلطة.

أولا وقبل كل شيء، لابد من قراءة المؤشرات الإيجابية للعملية الانتخابية بأسرها، منذ أن تم إجبار الرئيس السابق حسني مبارك على التخلي عن السلطة ومن ثم محاكمته، وعدم الغلو، كما فعل البعض، برهن كل ما جرى، منذ 25 يناير العام 2011 وحتى اللحظة بنتيجة انتخابات الرئاسة وفق منطق انتخابي ووفق حسابات فئوية وحزبية ضيقة. فمما لا شك فيه أن انتخابات الرئاسة، ومن قبلها انتخابات مجلس الشعب، قد جرت في سياق ديمقراطي حقيقي، نجم عنه أولا، فوز أحزاب عديدة بالمقاعد البرلمانية، وحيث انه من الطبيعي أن يكون هناك حزب يفوز بأكبر عدد من النواب في المجلس، إلا أن ظاهرة الحزب الحاكم المطلق، قد ولت، ورغم أن العدالة الأخواني والنور السلفي يحظيان بنحو 70% من عدد المقاعد البرلمانية، إلا أنهما أولاً حزبان وليسا حزباً واحداً، رغم التقارب الأيدلوجي بينهما، وثانياً، هما مجتمعان لا يحتلان ما كان يحتله الحزب الوطني الحاكم من أغلبية، فضلا عن أن الانتخابات نفسها قد جرت في جو ديمقراطي حقيقي، أي أن المجلس يمثل حقيقة إرادة الناخبين. ثم إن انتخابات الرئاسة، قد جرت في السياق الديمقراطي نفسه، أي في ظل تنافس حقيقي، حيث أولا تم الالتزام بمعايير اللجنة الانتخابية، التي استبعدت ثلاثا من أهم المرشحين ( عمر سليمان، خيرت الشاطر، وحازم أبو إسماعيل )، ثم إنها جرت في ظل تنافس نحو 11 مرشحا، خاضوا السباق، دون أن ينجح أحدهم في الفوز بأغلبية الأصوات من الجولة الأولى، التي تصدرها بنسبة 98% خمسة مرشحين، يخوض الجولة الثانية منهم اثنان حازا على أعلى الأصوات فيها.

رغم وضع الناخب في هذه الجولة أمام خيار صعب، إلا أن المجلس العسكري، أصر على المضي في طريق الخيار الديمقراطي، الذي وحده ينقذ مصر من حالة الانتقال من براثن الحقبة الماضية، ورغم تعالي الأصوات، التي قالت بإلغاء أو تأجيل جولة الإعادة، نظرا لما ظهر من "توتر" ارتباطا بنتائج الجولة الأولى، إلا أن المجلس العسكري، وبعد نجاح مصر في " التوافق " على اللجنة الدستورية قد نجح في السير على طريق استكمال عملية انتقال السلطة، وتسليمها لرئيس مدني. من الطبيعي بعد ذلك أن يختار الناخب المصري بين الفريق احمد شفيق والدكتور محمد مرسي، ولديه هواجس ومخاوف، يعزز منها كل طرف، في سياق دعايته الانتخابية التي تتجاوز أحيانا ما هو ديمقراطي، نظرا لحداثة الخبرة والتجربة وحتى الثقافة الديمقراطية، فمؤيدو شفيق من الطبيعي أن يحذروا من فوز مرشح الأخوان، لسببين أساسيين : الأول، أن من شأن ذلك أن يفتح الباب واسعاً، لهيمنة حزب الإخوان على كل مقاليد السلطتين التنفيذية (الرئاسة والحكومة) والتشريعية، والثاني الطبيعة الأيديولوجية / الدينية لهذا الحزب.

فيما مؤيدو الأخوان، يبدون خشيتهم أولا من مرور فرصة انتظروها نحو ثمانين عاما، وثانيا، كون شفيق ذا خلفية عسكرية، وكان قد تقلد منصباً وزارياً في العهد السابق . أي محايد لابد له أن يقرأ مغالاة الطرفين في التحفظ على مرشح المعسكر الآخر، بدافع الدعاية الانتخابية، ذلك أن الرئيس القادم لمصر، لن يكون مطلق اليدين، كما كان حال الرؤساء السابقين ( عبد الناصر، السادات ومبارك ) ولا حتى سلطة الملك من قبلهم، ليس لأنه مكبل بولايتين فقط، ولكن أيضا، لأنه سيحكم في ظل سياق مختلف.

ربما يكون الدكتور محمد مرسي أكثر قدرة على التحكم بالسلطة، لو فاز، لأنه سيجد مجلس شعب موالياً له، وسيجد حكومة من لونه وعلى شاكلته، لكنه أيضاً، سيواجه استحقاقات داخلية ومعارضة داخلية، من معسكرين، القوى الليبرالية والديمقراطية بما فيها اليسار السياسي والمدني، ثم رجال الأعمال والأقليات والمثقفين، وكذلك المؤسسة العسكرية، وسيحتاج وقتاً، هو وحزبه حتى يقوما بإعادة بناء المجتمع وفق نسقهم الفكري، أما أحمد شفيق _ رئيسا، فهو سيواجه معارضة داخلية، ممثلة في مجلس شعب مختلف، وهو ليس رئيسا لحزب حتى لو كان معارضا، لذا فإن الأقرب لأن يحكم بشكل ديمقراطي / مدني هو أحمد شفيق، الذي في مواجهة أغلبية برلمانية وحزب معارض قوي داخل البيت، لابد أن يلجأ إلى تفعيل مؤسسات الدولة، بما فيها مؤسسة القضاء. وفي الحالتين، فإن رئيساً جديداً لمصر سيحكم وفق أغلبية طفيفة، ربما لا تتجاوز الـ 55%، حينها، لا بد له أن يأخذ بعين الاعتبار، وجود نحو نصف الناخبين الذين لم يصوتوا له، بذلك لا بد من التفريق بين نجاح شفيق أو مرسي ونجاح مصر على طريق الديمقراطية. ينجح شفيق ويخسر مرسي أو ينجح مرسي ويخسر شفيق، ربما يكون مهماً لكن الأهم هو أن تنجح مصر في خيارها بدخول منتدى الدول الديمقراطية العصرية من أوسع الأبواب، لذا فإنه لا بد من التأكيد، منذ الآن على ضرورة احترام خيار الناخب المصري، أيا تكن نتيجة التصويت، والتصدي منذ اللحظة لكل الأصوات التي تحضر منذ وقت للتشكيك بالنتيجة، إذا ما جاءت وفق ما لا يشتهون.

لا بد من احترام النتيجة، وحيث انه متوقع أن تنخفض نسبة التصويت، التي ربما لا تتجاوز نسبة 30% من عدد من يحق لهم الاقتراع، خاصة وانه متوقع أن يحجم معسكر اليسار السياسي والمدني عن المشاركة في الاختيار بين مرشحين لا يلبيان طموحه الانتخابي، فلا بد من الإقرار بان الفائز هو أول رئيس ديمقراطي / مدني لمصر، ولابد من دخول معترك الشراكة السياسية، حتى ولو وفق صيغة : سلطة ومعارضة برلمانية، فإن فاز شفيق، على المعسكر الآخر أن يقر بالنتيجة وان يحترمها، لا أن يخرج، كما سبق وان هدد في ثورة ثانية، وإن فاز مرسي، فعلى المجلس العسكري أن يسلمه الحكم دون تردد، ومن حق من يخسر أن يبدأ في اليوم الثاني معارضته وفق الوسائل الديمقراطية وحتى أن يعترض وفق ما هو مشروع قضائياً، ومن ثم على الجميع احترام واللجوء إلى مؤسسات الدولة، كإطار يحفظ الاختلافات وحتى الصراعات الديمقراطية والتي لن تنتهي لسبب بسيط وهو أن النظام الديمقراطي لا يعرف منطق إقصاء الآخر، حينها يمكن القول بأن مصر كلها فازت في اختبار الديمقراطية وأنها نجحت في شق الطريق إلى إقامة نظام ديمقراطي وان الثورة الثانية قد حققت جل أهدافها.