الثورات العربية والنظرية الثورية

يأخذ البعض على الثورات العربية التي اجتاحت وتجتاح الدول العربية، أنها لا تنطلق من نموذج نظري معد مسبقاً، تسعى للوصول إليه عبر التحركات الشعبية التي تهدف إلى الإطاحة بالسلطات، ما يجعل مستقبل هذه الثورات غامضاً، وهو ما يعتبرونه يُدخل الدول التي تقع فيها في دائرة المجهول. ولأن الثورات لا تحتمل المجهول، يجب معرفة صورة المستقبل قبل البدء بصناعته، وهذه الثورات لا تفعل ذلك، لذلك يشك في ثوريتها. اغلب من يسوقون هذه الانتقادات، إذا لم نقل كلهم، أما يساريون ينتمون إلى الماركسية، أو أنهم ماركسيون سابقون. من المعروف أن الماركسية كنظرية تسعى من خلال مفهومها للثورة في إحلال ما تسميه نمط إنتاج مكان آخر، ولان التاريخ هو تعاقب لأنماط الإنتاج تجاوزها التاريخ وتصبح غير قابلة للحياة، فإن ديالكتيك التاريخ وبفعل تطور المجتمعات البشرية وصناعتها لتاريخها يعمل على الانتقال إلى نمط إنتاج آخر أرقى في التجربة الإنسانية وأكثر عدالة. ولأن النظرية الماركسية وليدة أوروبا الحديثة، فقد كان تركيزها الأساسي في البحث عن كيف ينتج المجتمع الرأسمالي الظلم الطبقي لصالح طبقات معينة (البرجوازية) تستحوذ على الغنائم المجتمعية، أقلية مجتمعية، على حساب طبقات أخرى (الطبقة العاملة) تم استغلالها بطرق وحشية، أغلبية مجتمعية، وهي المنتجة الفعلية لرأس المال وتراكمه، وكل المجتمع يعيش من جهدها وعرقها، وهي لا تحصل سوى على الفتات.

ولحل التناقض المجتمعي الذي تنتجه آلية الاستغلال الرأسمالي في المجتمع، يجب بناء مجتمع نقيض له، وهو المجتمع الاشتراكي الذي يحل العدالة مكان الظلم، وبالتالي يحل تناقضات المجتمع عبر القوة الاجتماعية ذات المصلحة في الثورة، الطبقة العاملة التي لا تخسر سوى قيودها بهدم آليات الاستغلال في المجتمع الرأسمالي وبناء المجتمع الاشتراكي البديل. وقد فصَلّت الماركسية في وصف المجتمع الاشتراكي وكيفية بناءه، سواء عبر آليات التوزيع في المجتمع الاشتراكي الذي هو مرحلة انتقالية للوصول إلى المجتمع الشيوعي، أو عبر آليات حكم الدولة لتكريس نمط الإنتاج الجديد عبر «ديكتاتورية البروليتاريا».طبعاً، لا يمكن اختصار النظرية الماركسية في أسطر، ولكن يمكن القول أن النظرية الماركسية، قد فصَلّت المجتمع الذي تريد الوصول إليه سلفاً وفصَلّت آليات الوصول إليه.

فهناك هدف «بناء الاشتراكية» وخارطة طريق للوصل إليه «الثورة وديكتاتورية البروليتاريا» وحامل وأداة التغيير وصاحب المصلحة فيه «الطبقة العاملة / البروليتاريا» عبر الطليعة الثورية «الحزب الثوري» فحسب الماركسية كل شيء معروف قبل البدء في السير على طريق الثورة عبر أدبيات أنبياءها ماركس وأنجلز ومن ثم لينين.وحتى لا يكون النموذج الثوري ماركسي فقط، فإن الثورة البرجوازية كانت تعرف المجتمع الذي تريده مسبقاً. فقد بدأ الاحتجاج على الإمارات الإقطاعية عبر شعار اقتصادي يهدم حدود الإقطاعية ويدمر حدودها «دعه يعمل دعه يمر» وصلاً الدعوة التي أطلقها روبسبير أحد أعمدة الثورة الفرنسية حين قال: «أريد أن أشنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس» ثم رفع شعار الثورة الفرنسية الذي انتشر كالنار في الهشيم في العالم كله: (حرية ـ مساواة ـ إخاء)، لقد كان للثورة الفرنسية خارطة طريقها، التي فصَلّها أنبياؤها وطليعتها، روسو وديدرو والموسوعيين الفرنسيين. وأسوق النموذج الثوري الفرنسي، تجنباً لأي رد يقول أن النموذج الاشتراكي قد انهار في الواقع التاريخي ولا يصلح نموذجاً.أعتقد النقد الذي يقول أن الثورات العربية لا تستند إلى نموذج نظري معين، ينطلق أساساً من عدم الثقة عند بعض المثقفين بقدرة البشر على صناعة تاريخهم بأنفسهم، وبدون طليعة تكون وصية على الوصفة الجاهزة المعدة مسبقاً، لا شيء يمكن أن يسير إلى الأمام بدون هذه الطليعة الأمينة على النظرية.

ولأن هذه الطليعة (بالمفهوم الماركسي) لا دور لها في الثورات الحالية التي اجتاحت العالم العربي، فليس أمام من يعتبرون أنفسهم طليعة سوى رذل التحركات الشعبية (التي اعتبرها البعض منهم تصريحاً وبعضهم تلميحاً تحركات رعاع) لأنها لا تنطلق من نموذج مسبق لنعرف سلفاً إلى أين ستقودنا. لقد ظهر واضحاً في الأشهر المنصرمة من عمر المتغيرات في العالم العربي، أن بعض المثقفين يعيشون رعباً حقيقياً من هذه التحركات، لأنهم لا يعرفون كل فرد في هذه التحركات ولا أي مكونات تتفاعل داخلها، حتى يثقون بها، كأن التاريخ لا يتجسد في الواقع إذا لم يعترفوا به. وفوق هذا وذاك، فهي تحطم عالم التحليلي الذي اقتاتوا عليه طوال حياتهم وتطيح بنماذجهم النظرية الرمادية الباهتة فاقدة الحياة.إذا كان من الصحيح أن الثورات العربية لا أنبياء لها، فإنها تشقّ طريقاً ونموذجاً جديداً ومبدعاً في صناعة التاريخ، ورداً على واقع بدا من ظلمته أنه تم إعدامه وخصي مجتمعاته إلى الأبد وكأننا خارج التاريخ العالمي. لقد أبدعت الثورات العربية ـ بدون فذلكات ـ تاريخها الحديث وهي تصنع مستقبلها اليوم، ليس بدون متاعب وأزمات وارتدادات، فالتاريخ ليس سكة قطار توصل ركابها إلى المحطة النهائية دون انعطافة هنا أو ارتداد هناك.

لقد قالت المجتمعات العربية كلمتها، لم يعد مقبولاً العيش بالطريقة السابقة، وبالتالي على الواقع العربي أن يتغير، لن يكون هناك نمط إنتاج جديد، هذا صحيح لأن هذه الموضة قد انتهت في العالم، ولكن لن يكون هناك استبداد مطلق، لم يعد من الممكن العيش بالطريقة السابقة ولا في العالم القديم، لذلك يجب اجتراح طريقة جديدة في العيش وبناء عالم جديد. يستحق المواطن العربي حريته ويستحق التعبير عنها وممارستها في اختيار حاكمه ومستقبله. تستند الثورات اليوم على الإنسان لا على المفاهيم، وكل ثورة واحتجاج يسعى إلى تحسين شروط حياة الإنسان ويحفظ كرامته، ويجعله يأخذ حريته وحقوقه التي هدرت طوال عقود، هي ثورة بكل معنى الكلمة. إذا لم يكن للثورات العربية نبياً محدداً، فإن كل دعاة الاحتجاج في التاريخ العالمي والعربي هم أنبياء هذه الثورة، وكل المظالم والقهر الذي عرفته الدول العربية في نصف القرن المنصرم من عمر المنطقة العربية هي محرك هذه الثورات، وحقوق البشر وحريتهم ومستقبلهم الأفضل هو هدفهم وخارطة طريقهم. لذلك يمكن القول، أن ما يشهده العالم العربي من ثورات هي ثورات كلاسيكية بسمات عربية إبداعية. فالعين تدمع عندما نرى الثورة المصرية تلهم الأسبان اليونان والأمريكان والانكليز وغيرهم الذين صنعوا «ميدان التحرير» خاصتهم.وأفضل ما نستطيع قوله أن نكرر مع أقطاب الماركسية ما أخذوه عن غوتة «النظرية رمادية يا صاحبي، لكم شجرة الحياة خضراء للأبد».