من يحرس المحروسة؟!
على عكس التوقعات، جاء النطق بالحكم في قضية الرئيس المصري السابق حسني مبارك على قضية قتل المتظاهرين في ميدان التحرير، وليس على قضايا الفساد، وذلك يعني أن الإدانة كانت من طبيعة جنائية وليست سياسية، لأن من شأن أن تكون الإدانة على خلفية الفساد أن تكون بمثابة حكم على ثلاثين سنة مضت بما يمكن أن يفتح على ملفات عديدة، كذلك من شأن هذا الحكم أن يهدئ من روع ذوي وأهالي الضحايا، ومحاولة لإغلاق ملف الحالة الداخلية التي ما زالت تتفاعل في مصر منذ نحو ستة عشر شهراً مضت. مسؤولية إعطاء أوامر القتل مبارك والعادلي تحملا القضية، وتمت تبرئة الآخرين، من مساعدي العادلي، أي ليست هناك تهمة مباشرة بممارسة القتل العمد، التي تؤدي إلى الإعدام، وبذلك تجنب الحكم القول إن رأس النظام السابق قد حمل القضية لكبش فداء.
ومبارك يظهر هكذا كضحية، قد تكون محل تعاطف، وتنهي الجدل. ذخر مصر، القضاء والجيش، صارا الآن، ومنذ أن بدأت الثورة قبل نحو عام ونصف، ضمانة تكاد تكون الوحيدة لوحدة مصر والحفاظ على نظام الدولة من التفكك بعد انهيار النظام، وحيث إن نظاماً جديداً ما زال قيد التشكل، فإن الصراع على طبيعته وجوهره هو الآن على أشده، وقد وصل ذروته مع انتهاء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، بما أفضت إليه، أولاً من انحصار نحو 98% من أصوات الناخبين بين خمسة مرشحين، ثم في انحصار الجولة الثانية بين مرشحين صريحين يمثلان مركزي القوة الحالي في مصر: جماعة الإخوان المسلمين، وتحالف: الجيش ورجال الأعمال والأقليات. النطق بالحكم في قضية الرئيس السابق، تمت قراءتها سياسياً، وكل طرف قام بتوظيفها في سياق معركته الانتخابية، ولكن قبل ذلك لابد من القول إن الحكم قد أكد هيبة القضاء المصري واستقلاله، رغم أنه واجه امتحاناً عسيراً للغاية، تمثل في سابقة محاكمة رئيس عربي، ثم في إجراء المحاكمة في ظل تجاذبات وتأثيرات سياسية وإعلامية منقطعة النظير، وبالنظر إلى أن الحكم كان لابد أن يكون واحداً من ثلاثة: البراءة، الحكم بالسجن عدة سنوات، أو الإعدام. يمكن القول ودون أدنى تردد إن الحكم كان عادلاً وموضوعياً ومتزناً، والأهم أنه كان مهنياً، فمن المؤكد أن الرجلين رأس النظام ورأس المؤسسة الأمنية، لم يستخدما السلاح مباشرة، حتى يكونا في مواجهة احتمال عقوبة الإعدام، وأنهما بذلك قد نالا أقسى عقوبة لمحرض على القتل، ثم إن الحكم لم يدِن آخرين، وبذلك لا يمكن القول إن القضاء المصري قد قدم كبش فداء للقضية.
مثل هذا الحكم كان يجب أن يهدئ الشارع المصري، نظراً لموضوعيته، ونظراً لطبيعته، لكن يبدو أنه حتى لو جاء القضاء وكذلك المؤسسة العسكرية المصرية بلبن العصفور، فإن الإخوان لن يهدأوا، ما لم يسيطروا على الدولة بالكامل! المشكلة تكمن في ضعف الثقافة الديمقراطية، خاصة لدى أنصار القوى الأيديولوجية والأحزاب غير الديمقراطية، التي تتخذ من الدين بالذات عقيدة وفكراً سياسياً، وتحديداً الإخوان والسلفيين، ويتمثل ذلك بكل وضوح، في منطقهم الذي يؤسس لنظام فاشي، والذي لا يحترم القضاء، ثم لا يحترم صناديق الاقتراع، ولا يقر بالآخر، لأنه يعمل وفق صيغة، أن نتائج انتخابات الإعادة إن جاءت لصالح مرشحهم، محمد مرسي فإنها تكون نزيهة وتمام التمام، أما إن جاءت لصالح خصمه، فإنها ستكون مزورة، ولن يقبلوا بها، وسيخرجون لميدان التحرير ويشعلون الثورة مجدداً، تماماً كما يفعلون الآن تجاه الحكم على مبارك.
المشكلة الحقيقية مع فتح المجتمعات العربية، تبدو جلية وواضحة في البديل عن أنظمة حكم الفرد، ونعني بذلك القوى الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، وهي قوى غير ديمقراطية، لا تؤمن بالحداثة وما بعدها، وبالتالي سرعان ما يكتشف المجتمع والشعب أنه بإسقاط الأنظمة قد خرج من "دلف لمزراب"، وانه قد تخلص من حكم غير ديمقراطي، ليذهب إلى حكم شمولي ألعن وأسوأ بكثير. تحتاج مصر إذاً أن تختصر المسافة كلها في مدى بضعة أيام، وكما توقعنا في مقال سابق، فإنه ما لم تتوافق القوى المركزية، وتتفق على صيغة تجنب مصر حرباً أهلية، تبدد مقدرات الدولة، وتلقي بها إلى قارعة طريق النفوذ الإقليمي، بحيث يمكن أن تكون تحت وصاية دويلة مجهرية بحجم قطر، لذا فإن هناك حلولاً ممكنة لكن التوصل إليها يكون إما من خلال، اتفاق تشارك فيه ثلاثة معسكرات: المجلس العسكري، الإخوان، وحملة حمدين صباحي، يقضي باحترام نتيجة الانتخابات أياً تكن، وبضمانة وثيقة وطنية، مثل وثيقة العهد المطروحة، أو من خلال أقدام المجلس العسكري الذي ما زال يتحمل مسؤولية قيادة الدولة، على اتخاذ واحد من قرارين: إما تأجيل انتخابات الإعادة فترة معلومة الأجل، لحين عودة الهدوء إلى الشارع والناجم عن التظاهرات التي أعقبت إصدار الحكم بحق مبارك، أو تشكيل مجلس رئاسي، يمكن أن يكون من المرشحين الخمسة الكبار الذين حازوا على غالبية ساحقة من أصوات الناخبين، والذي بمجموعه يعتبر متوازناً. تشبه مشكلة توافق القوى أو قدرتها على الشراكة الديمقراطية في نظام حكم جماعي، ما حدث في فلسطين، التي تتأثر مصالحتها بنجاح مصر في تحقيق الاستقرار، ذلك أن الطرف الثالث، نقصد حملة حمدين صباحي، لا تمثل حلاً وسطاً بين المعسكرين، لأن برنامجاً صباحياً يعتبر برنامجاً طوباوياً، كما أنه، مارس فعلاً انتهازياً بعد نتائج الجولة الأولى، حيث رفضها واقعياً بالسعي إلى أن يحل ثانياً، من خلال "تحالف" ميداني مع الإخوان، وتركيز حملته على الضغط على المرشح الثاني، وكان يمكن أن يدفع باتجاه احترام أولاً نتائج الجولة الأولى، ثم إرادة الناخبين في الثانية والانحياز للخيار الديمقراطي والدفاع عن نتيجة الجولة الثانية أياً تكن، والإعلان عن تحضيره لانتخابات العام 2016 بإعلان معارضته الديمقراطية للرئيس القادم بغض النظر عمن يكون شفيق أو مرسي، ورفعه شعار صباحي 2016.
ليس أدل على أن الوعي الديمقراطي لدى الجميع ما زال محدوداً، هو استمرار الجميع في ممارسة الدعاية الانتخابية بأشكال عديدة، لذا فإن الأمر برمته يعود إلى المجلس العسكري، الذي من خلال اجتماعه (الاثنين) سيحدد وجهة مصر، بقرار ربما يكون من أهم ما اتخذ من قرارات على مدى تاريخها الحديث كله.