المصالحة الفلسطينية:حسم الخيارات بالتوافق

ينبغي أن يكون الذهاب الى المصالحة، مترافقاً مع التوجه الحثيث الى وحدة المؤسسة الأمنية، ذات الحق الحصري في الولاية على كل مناطق السلطة. وإن كان هذا ترفاً وفوق المستطاع في الواقع، فلا بد من بدء عملية تشكيل الرؤية الوطنية الجامعة لهذه المؤسسة، بحيث لا تكون هناك ـ في العناوين العامة ـ أدنى شُبهة حول التنسيق الأمني مع المحتلين، بما يزيد حرفاً واحداً عن الغاية التي نشأ مثل هذا التنسيق من أجلها، ألا وهي امتناع المحتلين عن التوغل في مناطق السيطرة الأمنية الفلسطينية، بذريعة أن لديهم معلومات عن هجوم وشيك، واكتفائهم بإبلاغ الجانب الفلسطيني بهكذا أمر وتفصيلاته، لكي تأخذ السلطة الفلسطينية المقتضى اللازم وفق الحيثيات الحقيقية للواقع. دونما عنف ودون اعتماد مبالغات المحتلين في طرح المسائل من هذا النوع.

في الوقت نفسه، تمتنع الفصائل عن الذهاب الى خطط منفردة، بفتح النيران دون اعتبار لتداعيات لا يملك الجانب الفلسطيني دفعاً لها! هنا، تنشأ واحدة من ضرورات العمل الوطني الذي تشارك فيه كل القوى على الأرض، وهي وجود إطار أو هيئة، تتبع منظمة التحرير الفلسطينية، تبحث في مقاربات وطروحات تتعلق بالعمل الوطني، سلماً أو حرباً، ثم تُقر أو تعترض حسب مصلحة المجتمع الفلسطيني وظروفه. فإن قال طرف أن لديه "برنامج مقاومة" يوضع هذا البرنامج على طاولة التقييم الموضوعي العسكري، لتصل الهيئة الى استخلاصات صائبة، تحدد ما إذا كان بالإمكان، جعل مثل هذه المقاومة رابحة أو إنها خاسرة وفق المؤشرات الواقعية. وإن جاء التقدير هو أنها خاسرة، ينبغي أن يلتزم الجميع بعدم توظيف فكرة المقاومة، التي هي حق من حيث المبدأ، وسيلة لمحاولة دغدغة عواطف مجتمع بات يتمتع بتجارب كافية لجعل عواطفه غير قابلة للدغدغة. كذلك الحال، بالنسبة للخطوات السياسية، التي تُرتَجل بدافع أوهام التسوية، وفي محاولة للتأثير في الاحتلال والتخفيف من صلافته.

ينبغي التوافق عليها، على قاعدة التقييم الموضوعي، إذ يُصار الى طرح هذه المقاربات على هذه الهيئة كإطار مرجعي، لإقرارها أو إلزام منظمة التحرير باستبعادها، بعد التأكيد على لا جدواها! في إيران الأوتوقراطية نفسها، وحيث المرجعية الحاسمة والأخيرة لفرد يتمتع بـ "ولاية الفقيه" هناك برلمان منتخب يسمونه "مجلس الشوري" وهذا يسيطر عليه المحافظون، يقابله "مجلس صيانة الدستور" الذي يوافق ضمناً أو يعترض، على مخرجات عمل البرلمان في التشريع والرقابة، فيحكم على دستوريتها. وفي حال الخلاف بين المؤسستين، يحسم الأمر "مجلس تشخيص مصلحة النظام" الذي يترأسه "المعتدل نسبياً" على هاشمي رفسنجاني، وهذا الأخير، يمد "المرشد الأعلى" بالرأي السديد، ولطالما حسم هذا المجلس، في قضايا استراتيجية وخالف توجهات المحافظين في البرلمان. الأمور عندنا، أبسط من ذلك بكثير.

لكننا مطالبون بضبط إيقاع عملنا على صعيدي خيار السياسة وخيار المقاومة. فالإثنان يجري توظيفهما، وكأنهما مادتين تصلحان للتلهية أو للسجال، إن لم يكن لـ "تقطيع" الوقت وتعميق الخصومة. ربما يكون ما جاء في هذه السطور، أشبه بحلم يراه النائم، نرى فيه أنفسنا وقد توصلنا الى أعلى مراتب الكياسة والرشد والعمل الوطني المؤسي. غير أن أمراً واحداً عاجلاً، يتعلق بمستلزمات البدء في عملية المصالحة، وهو أن تترافق تسمية أعضاء الحكومة الانتقالية، مع تسمية نائب عام جديد، مع صياغة جديدة للجهاز القضائي، ترفد خُطى الحكومة بالمهابة والصدقية، وبالجدارة في الاضطلاع بالمسؤولية الجسيمة في مرحلة جديدة! إن المصالحة ليست تدبيراً أو تجريباً إدارياً بحتاً، ولا هي فض إشكال عشائري، ولا هي بدون حيثيات سياسية وأمنية تتطلب تصوراً وخيارات استراتيجية. إنها ارتقاء بمستوى اضطلاع الجميع بالمسؤولية الوطنية، لذا فإنها في الجوهر، عملية حسم للخيارات بالتوافق!