مصر تدشن جمهوريتها الثانية
ي ظل إقبال جماهيري ـ شعبي كبير، شارك عشرات الملايين من المواطنين المصرين في انتخابات الرئاسة التي جرت يومي أمس، وأول من أمس ا، ليختاروا أول رئيس لجمهوريتهم الثانية التي تقام بعد إسقاط النظام الملكي في عام 1952 , وبعد أن شكل ثلاثة رؤساء سابقين مرحلة الجمهورية الأولى التي وضعت لها حدا ثورة 25 يناير من العام الماضي , جرت انتخابات الرئاسة المصرية , في ظل اهتمام إقليمي ودولي منقط النظير . تدفق الناخبين المصرين على هذه الانتخابات له عدة دوافع , منها أن ذلك دليل على تعطش المصريين لممارسة حقوقهم الانتخابية , ورغبتهم الواضحة في دفع الحالة الديمقراطية الناشئة , وأستكمال أهداف الثورة , بإقامة النظام الديمقراطي السياسي , ومنها أن هذه الانتخابات مختلفة عن الانتخابات الرئاسية السابقة التي لم تكن تجري في ظل تنافس حقيقي بين المرشحين , ففي عهدي عبد الناصر والسادات اللذين استمرا نحو أقل قليلا من ثلاثين سنة ( 52 إلى 1980 )
كانت تجري وفق نظام الاستفتاء على المرشح / الرئيس , وهو المرشح الوحيد , ثم وبعد ضغط شعبي أضطر حسني مبارك الذي حكم ثلاثين سنة تالية , على الدخول في تنافس مع مرشحين آخرين , إلا أن الأمر كان شكليا , فلم يسمح نظامه بنزول مرشح حقيقي ينافسه في الانتخابات الرئاسية التي خاضها لأربع ولايات متتالية ( نذكر هنا كيف تم التنكيل بأيمن نور) الذي كان قد تجرأ وترشح دون أرادة أو دون نظام الفبركة الذي كان يجريه الحزب الوطني الذي كان يحكم مصر في عهد مبارك . الشعب المصري يدرك أن هذه الانتخابات أيضا تضع حدا للمرحلة الانتقالية الحالية , وسيكون لها دور حاسم في تحديد طبيعة الدولة والنظام الجديد , حيث يجري صراع جدي وحتى محموم بين القوى الدينية ( الإسلامية ) والقوى المدنية في المجتمع المصري .
طبيعة المرشحين تؤكد هذه الحقيقة , فرغم أن التنافس يجري بين ثلاثة عشر مرشحا رئاسيا , إلا أن خمسة منهم يتقدمون السباق الرئاسي ( عمرو موسى , عبد المنعم أبو الفتوح , محمد مرسي , أحمد شفيق , وحمدين صباحي ) , أي أن المعركة بين مرشحي التيار الإسلامي ممثلا بأبو الفتوح ومرسي , وممثلي التيار الليبرالي : موسى وشفيق , ويتوسط المعركة المرشح اليساري / الناصري حمدين صياحي .
من الصعب القول بأن الناخبين سينظرون إلى صباحي باعتباره خيارا وسطا , ومن الصعب أن نتصور أن يكون المزاج الشعبي قد أنتقل وصار يساريا في ليلة الاقتراع , كذلك فأن النحو باتجاه دائرة الوسط يعني بأن الناخبين لن يتطرفوا باختيار مرسي أو شفيق لأنهما مرشحين واضحين للتيارين سالفي الذكر , لذا فان المنافسة الحقيقية هي بين موسى و أبو الفتوح , وحيث أن المرشحين الثلاثة الآخرين أقوياء , بمعنى أنهم سيحصلون على أصوات مهمة من كلا المعسكرين , فأن الأقرب إلى المنطق هو أن يتواجه مرشحان في انتخابات أعادة , حيث من الصعب تصور أن يحصل مرشح من بين الثلاثة عشر مرشحا على أغلبية 51% من المقترعين .
ولذا فنحن نعتقد بأن الجولة الثانية التي ستشهد تحالفات بين من يخرجون من السباق وبين المرشحين اللذين سيبقيان في الميدان , حيث ستكون حالة الفرز شرسة جدا , وبتقديرنا فأن الجولة التالية وبالنظر إلى كون التيار الإسلامي أكثر راديكالية , وإصرارا فأن حظوظه ستكون أقوى , لكن في حال أن تنتهي المعركة في جولتها الأولى إلى ما ذهبنا أليه فان تصويت الإسلاميين _ خاصة الأخوان منهم _ لأبو الفتوح لن يكون تلقائيا , نظرا لأنه خرج من عباءة الأخوان كشاق لعصا الطاعة , الأمر الذي قد يشجع قيادات أخوانيه على الحذو حذوه , وبذلك فأن ما سيحسم الأمر هو ما سيلي تلك الجولة من اتفاقات بين القوى الناخبة وبين المرشحين . ذهاب الانتخابات إلى جولة ثانية , سيزيد من المشهد بهاء , فالمرشحان : موسى وأبو الفتوح , كانا قد أجريا مناظرة تلفزيونية على شاكلة الدول العريقة في نظامها الديمقراطي ,. وإذا ما جرت جولة ثانية بينهما بالذات , فإن الصورة ستصبح أجمل , وستشير إلى أن مصر باتت دولة ديمقراطية تماما كما هو حال دول الغرب الديمقراطي .
مكانة مصر الإقليمية والدولية بالتالي , تفسر حجم الاهتمام الإقليمي بانتخاباتها الرئاسية , ومن ثم الاهتمام الدولي , فانتخابات الرئاسة المصرية تبدو في مناطق عربية عديدة منها _ غزة _ على سبيل الحصر وكأنها انتخابات فلسطينية داخلية، وتتبع المواطنين لأخبار ودعاية المرشحين المصريين عبر المواقع والمنتديات يؤكد هذا المنحى، ولم تهتم غزة مثلا بأي حدث بهذا الشكل الذي انحاز فيه المواطنون الفلسطينيون علنا _ لو كنت مصريا لانتخبت فلان _ إلا بلقاءات برشلونة وريال مدريد , ولا شك أن الأمر سيشتعل إذا ما جرت جولة ثانية من الانتخابات , وسينقسم الناس حينها _ في مصر أمام صناديق الاقتراع _ والعرب أمام شاشات الكمبيوتر , بين المرشحين , تماما كما يحدث حين ينقسمون بين معسكري ريال مدريد وبرشلونة !
اهتمام العرب , والفلسطينيون مثلوا دائما بوصلة عربية , بالانتخابات المصرية , يشير بذلك إلى حقيقة باتت تتضح شيئا فشيئا مرتبطة بثورات الربيع العربي , لها علاقة بالرغبة الشعبية في إسناد الفلسطينيين في صراعهم ضد إسرائيل , ثم في ازدياد الرغبة في فتح الحدود بين الدول العربية على طريق الوحدة . بذلك فأنه لابد من القول بأن عدة ملفات مستعجلة سيجدها الرئيس المدني الأول في تاريخ الجمهورية المصرية , والذي بهذه الصفة , نقل الجمهورية من دورتها الأولى إلى دورتها الثانية، حيث كان الرؤساء الثلاثة السابقون , الذين شكلوا الجمهورية الأولى عسكريين , استلموا السلطة أولا بشكل غير ديمقراطي , عبد الناصر عبر الانقلاب العسكري , ثم السادات بصفته نائب عبد الناصر يوم وفاته , ومبارك مثل السادات , حيث كان نائبا له , تسلم مقاليد الحكم , بعد وفاته، ثم كانوا يجرون استفتاء أو انتخابات شكلية وهم رؤساء!. أول وأهم هذه الملفات هو الملف الداخلي، وهو من شقين: شق أمني، مهمته إعادة بناء أجهزة الشرطة والأمن الداخلي , وكذلك اطلاق عجلة الاقتصاد , ومواجهة البطالة والفقر , وسوء توزيع الثروة , كذلك أدارة المعركة التي لم تنته بعد , بين مراكز القوة السياسية , بطابعيها المدني _ الإسلاميون , والعسكري _ الجيش . ولا شك أن هناك منطقة خطرة نقصد بها العلاقات الداخلية بين الأغلبية المسلمة/ العربية والأقلية المسيحية / القبطية .
مهمة الرئيس ستكون صعبة لتحيد طبيعة صلاحيته هو نفسه بين مجلس شعب أسلامي , يسيطر على التشريع وسيحاول أن يقبض على الحكومة , ومجلس عسكري يمثل القوة العسكرية _ الجيش والأمن _ وهو مركز القوة التقليدي . أما على الصعيد الخارجي , فأنه سيواجه حالة استقطاب إقليمية , وصلت إلى حدود الحرب الإقليمية الطائفية , كذلك لابد له أن يجيب على المطلب الشعبي بمراجعة اتفاقية كامب ديفيد . ربما كان عمرو موسى أكثر حنكة وتجربة سياسية من كل خصومه , خاصة من أبو الفتوح الذي يعتبر منافسه الرئيسي , لكن دون الاستناد إلى قوة داخلية والى قوة خارجية فأن الرئيس المصري القادم , الذي لن يكون مطلق الصلاحيات ولن يكون بمقدوره أن يعيد مركزة القوة حول شخصه , سيحاول أن يبقى في الدائرة الوسط بين مركزي القوة الداخلية , أما على الصعيد الإقليمي فأنه سيتبع أيضا سياسة الأغلبية , هنا موسى أيضا خبير في المواقف العربية , لكنه يظهر على الصورة التقليدية التي ربما لا تشفي غليل قوى التغيير والثورة , كذلك فإن أتباع سياسة وسطية ربما لا يرضي المصريين الذين اعتادوا منذ ستين عاما على دور قيادي مركزي لدولتهم في المنطقة وحتى في العالم منذ أيام عبد الناصر .