انكسار فلسطين بوصفها حلماً

شكلت فلسطين لسنوات طويلة منارة لكل من يبحث عن المستقبل، رغم المأساة التي عاشتها البلاد، وقد يكون بفضلها، لقد كانت قضية القضايا. ارتبطت كل القضايا المصيرية في المنطقة ـ عن حق أو عن باطل ـ بتحقيق الحلم باستعادة فلسطين، لقد كانت فلسطين على الدوام أكبر من جغرافيتها وأكبر من شعبها، مكان تحول إلى قضية واستحال إلى رمز صنعه الخيال ورفعه إلى مراتب المقدس. فهذه القضية التي شغلت العالم العربي على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي، وإذا كان التعاطف والبذل الشعبي قد وصل في كثير من الحالات مع القضية الفلسطينية إلى مستويات لا تصدق، بالمقابل فإن التوظيف الرسمي السلطوي في العالم العربي قد وصل أيضاً إلى درجات لا تصدق، ولو كان من موقع النقيض، موقع استخدام القضية الفلسطينية ورمزيتها من أجل تعزيز السلطات وتبرير القمع الشامل.

كانت النكبة في العام 1948 عنواناً لانكسار المستقبل العربي، وعلى المستوى الفلسطيني شكلت تدميراً للوطن والمجتمع الفلسطينيين. وبات التاريخ الوطني الفلسطيني والتاريخ القومي العربي بعدها مختلفاً عما سبق، بحيث شكلت النكبة حدثاً تأسيسياً في الواقعيين الفلسطيني والعربي، ومفصلاً وانقطاعاً تاريخياً ذو بعد تحولي، ليس فقط لأنه رسم خريطة جديدة للمنطقة وخلق واقعاً سياسياً ضاغطاً على الجميع في المنطقة.

بل لأنه شكل انقطاعاً ثقافياً وتحدياً، لا يكفي الإجابة عليه سياسياً، بل بات بحاجة إلى إجابات ثقافية تجيب على سؤال تجاوز سؤال شكيب ارسلان: لماذا تقدم الغرب ولماذا تأخرنا؟ ليصبح السؤال: لماذا هُزمنا ولماذا انتصروا؟ وبالتأكيد فهو ليس سؤالاً عسكرياً. في لحظة من لحظات تاريخ المنطقة، ظهر المشروع القومي وكأنه الرد على هذا السؤال الذي تجاوز سؤال النهضة الذي طرحه أرسلان ورداً على الهزيمة التي أصابت الفلسطينيين والعرب من ورائهم. وباتت استعادة الحلم الفلسطيني مسألة وقت ليس إلا، فالعملاق العربي خرج من القمقم ولا أحد يستطيع إعادته، فهذا العملاق هو الذي سيعيد المنطقة إلى سياقها الطبيعي وسيعيد للعرب كرامتهم وحريتهم وأرضهم السليبة. ولكن الحكاية أخذت مساراً آخر في العام 1967، فإذا كان المشروع الصهيوني قد هَزَمَ عند تأسيسه جيوش الدول العربية المستعمرة أو الخارجة حديثاً من الاستعمار، فإنه في العام 1967 قد هزم المشروع المستقبلي العربي، على افتراض أن المشروع القومي كان يجب على أسئلة المستقبل. إن تسمية هزيمة العام 1948 بـ«النكبة» وهزيمة العام 1967 بـ«النكسة» كان تعبيراً عن العجز في مواجهة المشكلة حتى من خلال الاعتراف بحقيقة ما حصل، فالتسميتان اللتين أطلقتا على الحدثين المفصليين، تسميتان احتياليتان، حاول أصحابها حجب الواقع، وبالتالي استخدمتا للتغطية على ما جرى، وليس من أجل مواجهته.

وتعبير «النكسة» الذي نحته الصحفي المصري محمد حسنين هيكل هو مصطلح تبريري، يبرر بقاء السلطة بعد هزيمتها، وأن ما جرى ليس سوى نكسة صغيرة الى الوراء، وأن هذه النكسة لن توقف المشروع القومي. وبذلك كان المشروع القومي ما زال مستمراً، وأنه سيتجاوز نكسته وسيرد على العدوان وسيستعيد الأرض التي سلبت لاحقاً وسابقاً. ولكن المشروع القومي بدأ يدخل المستنقع بعد هزيمة العام 1967، وبعد الحرب 1973 التي اُعتبرت من جانب أصحاب المشروع القومي رد اعتبار، رغم أنها لم تستطع أن تستعيد أي أرض تذكر. أخذ المشروع القومي بعد الاستنقاع بالتعفن.

واستحال إلى معاهدة صلح، لم تحل المشكلات العالقة، ولم تستعد الحقوق التي سلبت. وبات التكيف مع سلب الحقوق هو المقولة القومية التي راجت منذ السبعينات باعتبارها نصراً.مع تصدع المشروع القومي، وفشله في التصدي للمهمات التي ألقاها على نفسه بالنسبة للقضية الفلسطينية، كان الرد الوطني الفلسطيني بأولوية الوطني على القومي في التعامل مع القضية الفلسطينية، مع انجازات رمزية مثل معركة الكرامة 1968 التي تصدى فيها مجموعة من الفدائيين الى قوات اسرائيلية، كانت اسطورة الوطني وقدرته على انجاز تحرير كامل التراب الفلسطيني. وأخذت الشعارات منحى نقيضاُ: تحرير فلسطين هو الطريق إلى الوحدة العربية، وكل ما فشل فيه المشروع القومي تم اسناده الى المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أعاد الوجود الفلسطيني على الخريطة السياسية في المنطقة، وحمل الهم الفلسطيني وجعل الشعب الذي حاول المشروع الصهيوني تكنيسهم تحت سجادة المنطقة، إلى جزء أساسي من معادلة المنطقة.

ولكن مهمة التحرير الكامل للوطن السليب كانت أكبر من قدرة الوطنية الفلسطينية. لذلك خلال سنوات قليلة وبفعل الوقائع التي أخذت تتكرس على الأرض، بدأت حركة التحرر المحلقة في سماء الحلم، تنزل الى أرض الواقع، لتتحول الى عضو في النظام العربي الرسمي، ومن ثم تبحث عن آلية للتكيف مع ممكنات المعطيات السياسية في المنطقة، وبدأ البحث مبكراً بعد حرب تشرين 1973 عن كيفية دخول حركة التحرر في إطار التسوية المحتملة بعد تلك الحرب، فكان الشعار الشهير ببناء «السلطة الوطنية» على أي جزء يتحرر من فلسطين، وكان هذا الشعار مدخلاً لتحويل حركة التحرر الى جزء من آليات عمل المنطقة وقواها الاقليمية. كان يجب تأديب الحركة الوطنية الفلسطينية عدة مرات حتى تتكيف، وكان التكيف النهائي بتوقيع اتفاق أوسلو الذي أدخل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى وطنها كسلطة دون أن تتحرر هذه الأرض، ودون أن يتم الاعتراف بأن الأرض التي تقيم سلطتها عليها أرضها، على الأقل، ليست أرضها بعد، بل هي «أراضي متنازع عليها».

لم يكفِ التسوية التي تم تصميمها في المنطقة، والعاجزة عن استكمال تحققها على أرض الواقع، أن يتنازل الفلسطينيون عن 78 في المئة من وطنهم التاريخي. ولم يسمح لهم في بناء دولتهم على الجزء البائس المتبقي من الوطن، فاستطالت المفاوضات الى سنوات، واستطالت السلطة وتحولت إلى سلطتين متقاتلتين، كل منهما، ترهن بشر لا ذنب لهم من أجل الضغط على الطرف الآخر. وتحولت المفاوضات من أجل ذاتها، وتحولت المقاومة التي قال بها من سيطر على قطاع غزة وتحول الى سلطة تمارس أردئ ممارسات السلطات الديكتاتورية في العالم العربي، وأصبحت «المقاومة» شعار ترفعه سلطة تقوم في الواقع باعتقال من يريدون المقاومة، وتمارس ما اشتكت منه لسنوات بوصفه ممارسات ظالمة.

في تاريخه كان مسار فلسطين الحلم محزناً، من المشروع القومي الى المشروع الوطني الى المشروع الإسلامي، أخذت فلسطين القضية والرمز تتآكل، وتفقد بريقها، وتتحول الى قطعة سلطة غير مكتملة يتناهشها أبناؤها، واضعين النقطة الأخيرة في مسار انكسار فلسطين بوصفها حلماً.