معايير الحكم على المواقف والسياسات..

ما إن أقسمت حكومة الدكتور سلام فياض اليمين الدستورية حتى اندلعت حملة من التصريحات، التي تحمّل حركة فتح المسؤولية عن تعطيل المصالحة الوطنية، ذلك أن الإصرار على إعادة تشكيل الحكومة يعني أن المصالحة مؤجلة وإلاّ لما كان من الضروري تشكيلها. واقع الحال في كل الأحوال، سواء بقيت الحكومة السابقة على حالها، أو جرت إعادة تشكيلها، فإن المصالحة معطلة لأسباب أخرى، أما إعادة تشكيلها فهي مؤشر فقط على غياب الإرادة في تحقيق المصالحة، دون أن تتحمل الحكومة بذاتها المسؤولية عن ذلك. المهمة الرئيسة التي وضعها الرئيس محمود عباس، للحكومة، وهي إجراء الانتخابات المحلية، هي أيضاً مؤشر آخر، ربما أكثر إقناعاً، بأن موضوع المصالحة لا يزال في علم الغيب، ذلك أن عملية الانتخابات

ستستغرق وقتاً طويلاً، ومن الواضح أنها ستقتصر على الضفة الغربية، حيث لا مجال لإجرائها في قطاع غزة. ونعتقد أن إعادة تشكيل الحكومة لم يكن لتقديم رسالة ما بشأن المصالحة، فالحكومة التي أصبح حالها أسوأ من الجبنة السويسرية، لم تعد قادرة على متابعة مهماتها، خصوصاً بعد كل ما لحق ببعض وزرائها من تهم بالفساد، فضلاً عن استقالة البعض الآخر. كنا نتوقع أن يجري التركيز من قبل الكتّاب والسياسيين، أن تحظى ظاهرة الفساد، التي أطاحت بعدد من الوزراء، بالاهتمام الأكبر، ولكن ماذا نفعل إزاء تمدد ظاهرة الفساد، التي ربما باتت تشمل كل الحركة السياسية الفلسطينية، مع ملاحظة التفاوت في نوعها وحجمها انطلاقاً من مدى الاقتراب أو الابتعاد عن السلطات التي تجري في عروقها الأموال، وما يرتبط بها من آليات تسمح بانتشار هذه الظاهرة دون رقيب أو حسيب. لسان الحال يقول: "لا تعيرني ولا أعيرك، فالهم طايلني وطايلك"، ولذلك لا غرابة في أن يتسم تناول ظاهرة الفساد، بالتجاهل خصوصاً من قبل القيادات السياسية.

في هذا الإطار من غير المفيد أو المناسب لأي من طرفي الانقسام، أن يتخذ من أي إجراء أو سلوك من قبل الطرف الآخر مبرراً أو سبباً لتحميل هذا الطرف المسؤولية عن تعطيل المصالحة، فالمواطن الفلسطيني لم يعد ينتظر مثل هذا الخطاب، وهو، أي المواطن، لم يعد يتأثر بما يصدر أو يقال من قبل طرفي الانقسام بهذا الخصوص. عند فحص أسباب تعطل المصالحة بمعزل عن المسائل التقنية والإدارية التي تتصل بأولويات تنفيذ البنود التي تم الاتفاق عليها، يترتب علينا أن نعترف بأن الإرادة السياسية ليست متوفرة بعد بالقدر الذي يكفي لتجاوز هذا التعطيل. موضوعياً، وبغض النظر عن مدى قبولنا أو رفضنا، فإن الطرفين ينتظران نتائج الانتخابات الرئاسية في مصر، وإلى أين ستؤول الأحوال فيها، وهذا أمر منطقي إذ لا يمكن بأي حال للسياسة الفلسطينية أن تقفز من فوق دور ومكانة واستراتيجيات مصر، أو تتجاهلها، سواء على مستوى تأثير مصر في معادلات الصراع مع الاحتلال أو على مستوى التوازنات وموازين القوى الداخلية. ولكن سؤال المصالحة، يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، رغم أهمية الشرط المصري، وهو أسبق كثيراً من التطورات الأخيرة التي جرت في مصر منذ الخامس والعشرين من فبراير العام الماضي، وبالإضافة إلى ذلك، هل سننتظر انتخابات الرئاسة المصرية فقط، أم أن الوقت سيطول بطول الفترة التي تحتاجها مصر لكي يستقر حالها؟

إذاً لا بد من أن هناك عوامل أخرى، لعل أهمها الحسابات السياسية المرتبطة بالمفاوضات والرباعية الدولية، وإسرائيل، ما يعني في المحصلة أن قرارنا بشأن أوضاعنا الداخلية ليس قراراً مستقلاً، ولا هو قرار وطني فلسطيني يخضع للحسابات الفلسطينية الخالصة. إذا قبل الشعب الفلسطيني بمثل هذه القواعد، للتعامل مع قراره الوطني وشؤونه الداخلية، وبالارتهان للحسابات الفئوية، والبرامج والمصالح الفئوية، فإن هذا سيؤدي إلى فتح "حساب توفير" طويل الزمن لعمر الانقسام، الذي يقترب من إتمام سنواته الخمس.

وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة، كل طرف للآخر بتحمّل المسؤولية عن تعطيل المصالحة، وباعتبار أن ذلك لم يعد يصلح لإضافة أية ميزة لأي طرف من طرفي الانقسام، فإن المحك الحقيقي، لتأكيد الإخلاص، وتوفر إرادة وطنية حاسمة باتجاه تحقيق المصالحة، هذا المحك يذهب إلى ميادين العمل والممارسة. قد تكون عملية إجراء الانتخابات المحلية في الضفة مؤشراً على الالتزام الديمقراطي، ولكنها قد تكون أيضاً لأسباب مشابهة للأسباب التي أدت إلى إعادة تشكيل حكومة الدكتور سلام فياض، وفي كل الأحوال فإنها ستكون مؤشراً آخر على دوام حال الانقسام، ما لم تكن انتخابات شاملة لكل الأراضي المحتلة منذ العام 1967.

أما المحطات الأساسية لتأكيد الإخلاص لقضية المصالحة، فإنها تتصل بمدى استعداد الطرف الذي يدعي ذلك، لإطلاق حملة شعبية احتجاجية وتحريضية ضد الانقسام ومن أجل المصالحة. والسؤال؛ لماذا لا يسمح هذا الطرف أو ذاك بتخصيص أسبوع كامل مثلاً، يدعو فيه عشرات وربما مئات آلاف الفلسطينيين للخروج رفضاً للانقسام وللمطالبة بتحقيق المصالحة؟ لماذا لا تدعو الفصائل التي ترفض الانقسام، وتدّعي إخلاصها للوحدة، إلى إضراب عام عن الطعام مثلما فعل أبطال الحركة الأسيرة، وهل يكفي أن يبادر بعض الشباب والشخصيات محدودة العدد، إلى الإعلان عن الإضراب عن الطعام احتجاجاً على واقع الحال المزري؟ ثم لماذا لا يتغير السلوك اليومي تجاه الآخر، وتجاه الناس، وإزاء كيفية ممارسة السلطة والمسؤولية، من قبل الطرف الذي يدعي إخلاصه للمصالحة؟ إن المواطن الفلسطيني لم يعد يحكم على مواقف الأطراف من خلال التصريحات والحملات الإعلامية، وإنما من خلال الممارسات والأعمال الملموسة والإجراءات والنشاطات التي تقاوم الانقسام بكل تعبيراته ومفرداته.