من النكبة الى الانسداد الراهن

حول سطور الأمس، عن النكبة وثقافة التاريخ، جاءني من لبنان، تعقيب من أخينا زكريا عبد الرحيم (أبو يحيى) الفتحاوي المشارك في مرحلة التأسيس، وقد قدرت اهتمامه بجوانب تفصيلية من الرواية الفلسطينية، وهذا هو نتمناه من محُدثي المهام القيادية، لأن المحتلين يضللون، ويتمادون في محاولات التغليظ السياسي لنتائج النكبة، فيتطلبون ويسعون الى أن يفرضوا علينا اليوم، الاعتراف بتوصيفات لدولة الغزو والانتهاب، متجاهلين وقائع التاريخ وحقوق شعبنا في وطنه. ففي تعقيبه، يضع أبو يحيى واحدة من المقاربات، انسجاماً مع الدعوة الى الإلمام التفصيلي بأهم جوانب الرواية الفلسطينية الزاخرة بالوقائع والمفارقات، وأخذ العبر منها، لأنها تفيد في فهم الحاضر وتفسير الماضي الذي لم يمض، وفي إغناء اللغة السياسية. فالصهيونيون ماضون في تسويق روايتهم، ويتجنبون التعرض لوقائع التاريخ، ويركزون على مزاعم تهديدات يتعرضون لها، للتغطية على تلك الوقائع. ويقول أبو يحيى، إن ضعف الرؤية السياسية، لدى القيادات الوطنية، أعماها عن واجب الإعلان عن قيام دولة فلسطين، قبل إعلان اليهود عن دولتهم أو بالتزامن معه. وفي الحقيقة، كانت حكاية مشروع التقسيم، تحمل من المفارقات العجيبة ـ إن لم نقل الطريفة ـ ما يجعلنا نجزم بأن أداء الحركة الصهيونية، في الفترة من تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 الى 15 آيار (مايو) 1948 كان من أكثر أمثلة الأداء دهاءً وذرائعية.

 فقد كانوا في قرارة أنفسهم، يريدون الاستفادة من قرار التقسيم، ووافقوا عليه مع التحفظ والقول بأنه "غير كافٍ" مستذكرين "وعد بلفور" كمرجعية للمطالبة بكل فلسطين، ومارسوا الدسائس لحث الدول على التصويت للقرار 181، بالضغوط والرشى، وكانوا في دواخلهم سعداء بالرفض العربي والإسلامي له، وأعدوا أنفسهم لأخذ المشروعية الدولية منه. وبعد إقراره (29/11/1947) تحركوا ميدانياً لبسط قوتهم على الأرض، ثم سعوا الى نسفه كمرجعية للحل، إذ تراجعت الولايات المتحدة وعدة دول، عن تأييد مشروع التقسيم. بل في اللحظة التي كان فيها الرئيس الأمريكي يعترف بدولة أسرائيل، استناداً الى مرجعية التقسيم، بعد دقائق من إعلانها مساء الجمعة 14 آيار (مايو) 1948 كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة، تناقش مشروع قرار أمريكي، بوضع فلسطين تحت الوصاية الدولية، على أن يُصار الى البحث عن صيغة أخرى غير التقسيم. وكان الهدف مزدوجاً، وهو منح إسرائيل الوقت لكي تستكمل وتكرّس السيطرة على مساحة أوسع، تتجاوز حدودها وفق قرار التقسيم، وفي الوقت نفسه منع العرب الذين اقتنعوا في قرارة أنفسهم بضرورة الاستفادة من هذا القرار، للحصول على المساحة المخصصة للشعب الفلسطيني. ولما تأتى لليهود تحويل الوجهة الى مرجعية أخرى، لإعادة النظر في مشروع التقسيم، تحت عنوان "إيجاد تعديل سلمي في مستقبل وضع فلسطين" وتكليف السويدي الكونت برنادوت لكي يكون وسيطاً، سرعان ما قتلت عصابة "شتيرن" الصهيونية، هذا الوسيط، بعد أن طرح مشروعاً للتسوية، لتذهب الأمور في سياق ذلك التدويخ، الى تشكيل لجنة "التوفيق الدولية" التي دعت الى "مؤتمر لوزان" في نيسان (إبريل) 1949 الذي جمع الطرفين العربي والإسرائيلي.

من ذلك المؤتمر حصلت إسرائيل على اعتراف عربي ضمني بها، وكان التقسيم قد أصبح مطلباً عربياً، لكنها اليهود لم يستجيبوا لأية ضغوط للانسحاب من الأراضي الزائدة عن المساحة المقررة لهم في القرار 181! إن خداع الصهيونية، ووحدة قواها، والتماسك والتخطيط، ووضوح المشروع، ومساندة الدول الاستعمارية لها، وتواطؤ النكبويين العرب، والشقاق بين النكبويين من الزعامات المحلية، كل ذلك وسواه، صنع النكبة وطعن المناضلين الوطنيين في الظهر، بعد أن كانوا ـ لو توافر لهم الوسط السياسي الوطني الموحد الفاعل ـ قادرين على الصمود وتحقيق النجاة، على الرغم من كل العوامل المتوافرة للصهيوينة!