الطير والراعي

لعل من أطرف ما تأسس من عادات الخصومة وفي مقاربات المصالحة؛ أنه كلما أوشكت قيادة السلطة في رام الله، على أخذ المقتضى اللازم، لتفعيل عمل الحكومة، والتخلص من مشكلات عالقة؛ يصدر صوت حمساوي مبشّر، بأن الانعطافة التصالحية ستكون أسرع وأقرب الينا من حبل الوريد. وفي العديد من المرات، كان مثل هذا الصوت، يترافق مع زيارات وحيثيات، ونبرات وفاقية، تعلو ثم تعلو، الى تبدأ في هبوط تدريجي، كالسلم الموسيقي، فإذا بنا بصدد الحديث عن تفاهم على آليات تفعيل الجزء القابل للتنفيذ، من الفقرة العسيرة، من بند شائك في وثيقة التأكيد على اتفاق سابق، يقضي بالنظر بروح المسؤولية لموضوع المصالحة!

ربما للمرة العاشرة، أجدني مضطراً لتكرار ما رواه لي صديقي العراقي المرحوم كريم المُلا، وهو وزير شباب أسبق، وعمل سفيراً لبلاده في الجزائر. فقد حدثني الرجل عن نوع من الطيور الخبيثة، يسميه الفلاحون العراقيون "مْلَهّي الرُعيان" أي الذي يجعلهم ينشغلون به عن أغنامهم وعن حلالهم. يقترب الطير من الراعي بوداد ظاهر، فيتبختر كأنه يدعوه الى الإمساك به. يهم الراعي بالتقاطه لكي يستمتع بصحبته، فيقفز الطير قفزة صغيرة وإعجازية في دلالتها، لا تزيد عن شِبريْن، كأنما يقول للراعي، إن الإمساك بي ما يزال متاحاً، ويداك هما اللتان أخطأتا. يعاود الراعي الكرة، فتكون قفزة الطير، أقصر قليلاً أو أطول، مع الحفاظ على الإيحاء بأن الإمساك مُتاح. ولكي لا يحس الراعي باليأس أو بالملل، ترى الطير "مْلَهّي الرعيان" يتعمد بين كل أربع أو خمس قفزات للراعي في الهواء؛ تقديم فقرة استعراضية ترفيهية، كأنه يتفلّى، وهي عنده تضاهي الغنج في حياة الثديّيات. تتجدد حماسة الراعي للاستجابة. يقفز في اتجاه الطير، وهذا الأخير يعاود القفز بدوره، مع التأكيد على غواية تنم عن قابليته للانمساك. وما هي إلا سويعات، حتى يكتشف الراعي ما هو أسوأ من الفشل في الإمساك بالطير: لقد أضاع الغنمات نفسها، وتبدد منه الحلال!

* * *

باختصار "حماس" لن تصالح. ولكي لا نظلمها جزافاً، نقول إنها فاقدة للقدرة على الذهاب الى مصالحة، لأن قائمة المحاذير والكوابيس بالنسبة لها، تزداد طولاً يوماً بعد يوم، وإن كانت السعادة الوهمية، تغلّف هذه اللحظات باللمعان المؤقت، بشفاعة صعود "الإخوان" في الجوار العربي. الآن ما زال الحمساويون يخافون من القديم (انقضاض المجتمع والثأرات وحقوق الدم والكرامة) ويخشون من فقدان الجديد (أطايب السلطة ومباذلها وأطيانها ونفوذها القسري على الناس) ويستعيذون بالعناد من صناديق الاقتراع، لأنها كاشفة. فمثلما كشفت الصناديق الخيبة الجزئية لأوضاع سلطتنا في كانون الثاني 2006 فإنها ستكشف الخيبة الشاملة لأوضاع سلطتهم على كل صعيد، في العام 2012. بالتالي فلا يصح أن يطاوع الراعي ذاك الطير، ولا ينبغي أن يكترث به حين يتفلى.

كلما اقتربنا مع القيام بأبسط الأمور وأشدها إلحاحاً، كإجراء بعض التصويبات في حكومة تقيحت، أو تأسيس آلية رقابية شبه دستورية، على الأداء في كل مجال، يتفلى الطير الخبيث على مرأى من الناظرين، فنترك كل شىء وننشغل بقفزات في الهواء!

دعونا من مشعل الذي وصل الى القاهرة. فلا معنى لمفردات مثل هذه الأنباء: انضم اليه وفد، أو قوبل هو والجميع من المخابرات، أو أعدت الورقات وتكثفت الاتصالات وسيصل أبو مازن، وسيحضر عزام متفائلاً، وسيكون هناك اتفاق على تفعيل الفقرة الوفاقية، من اتفاق يتعلق بجزئية من الاتفاق!

فـ "حماس" لن تصالح. إن علاج الخصومة، ستتكفل به سيرورة تاريخية، يكون الشعب هو بطلها الذي يكنس كل ذي شائنة وفظاظة، من كل أطياف المشهد الفلسطيني!