الأسرى .. الربيع الفلسطيني على الأبواب

علينا ألا ننسى أن الأسرى كانوا قد نجحوا قبل بضع سنوات في جمع الفلسطينيين بأول وثيقة تفاهم فتحت الطريق إلى بوابة التوافق الداخلي، وأنهم يحققون إجماعاً داخلياً في أكثر اللحظات والأوقات انشقاقاً، وما زال الأسرى بصمودهم وتضحياتهم وطبيعتهم المتمثلة في أنهم ينتمون إلى الوطن أولاً ومن ثم إلى كل ألوان الطيف السياسي الداخلي، يجمعون الأطراف السياسية الفلسطينية، حين يعزّ الاتفاق.

وحيث إن قضية الأسرى هي قضية سياسية بالدرجة الأولى، وتمثل الخندق المتقدم وربما الأول مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتجاهل بحقهم كل اتفاقات جنيف وليس فقط اتفاقات أوسلو، فإنه بمقدورهم أن يعيدوا توجيه البوصلة الفلسطينية باتجاه العدو الإسرائيلي بعد أن انحرفت كثيراً واتجهت إلى الخصومة الداخلية.

ولعل بقاء نحو أربعة آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حتى اللحظة، رغم اتفاقات أوسلو، ورغم تجريب الخيارات، منفردة، خياري التفاوض والمقاومة المسلحة، ورغم انقضاء المحكوميات الظالمة لمئات الأسرى، إلا أن بقاء هذا العدد في السجون أولاً، وبقاء احتمال زج إسرائيل في أي وقت بمن تريد من الفلسطينيين إلى داخل سجونها العسكرية، يبقي على حالة المواجهة مع إسرائيل، باعتبارها حالة كفاح وطني بين الاحتلال والمحتل وطنه.

مراراً وتكراراً قلنا، انه على الفلسطينيين أن يجربوا، بل أن ينخرطوا في أتون الوحدة الميدانية أولاً، ذلك أنه ليس فقط لا معنى لوحدة فوقية أو رسمية أو حتى وحدة تدير ظهرها أو لا تكون بهدف رص الصفوف لمواجهة ومقارعة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن مثل تلك الوحدة ليست ممكنة، وما ضياع السنين تباعاً، مرة بسبب ارتباطات القوى بعلاقات خارجية إقليمية أو دولية إن لم تكن لها مصلحة مباشرة بالانقسام، فإن حساباتها تؤثر على الخيار الوطني الذي لا بديل عنه لكسب معركة التحرر الوطني مع الاحتلال، ومرات أخرى بسبب مواقف وتقديرات وحسابات بعض القوى والأطراف وحتى الجماعات التي "تتاجر" بالقضية الوطنية، مرة بحسن نية وأخرى بسوئها.

وهناك من القضايا الأساسية التي تجمع الفلسطينيين موضوعياً في الميدان، وتفتح الطريق واسعاً ليس لإعلان الوحدة الرسمية والسياسية، بل لتجسيدها على الأرض ولعل هذا النموذج من الوحدة هو النموذج الحقيقي، ومن ضمن هذه القضايا: القدس، الاستيطان، العودة وقضية الأسرى.

فإذا كانت انتخابات محلية أو طلابية تجمع استطالات القوى في صفوف هذه الشرائح المجتمعية، فإن خوض معارك الجدار ومواجهة الاستيطان والالتفاف حول قضية الأسرى، واحتضان الحراك الشعبي المتطلع إلى العودة، كلها فرص متاحة لتحقيق الوحدة العظيمة لشعب يتوق إلى الحرية والاستقلال، ويفتح الباب لإطلاق الربيع الفلسطيني لإسقاط الاحتلال وإنهائه.

الآن ومنذ نحو أسبوعين ومنذ أن طرق جدران خزان الأسر خضر عدنان وتلته هناء شلبي، ومن ثم اندلاع انتفاضة الأسرى المضربين عن الطعام منذ أسبوعين، فإن هناك فرصة حقيقية لجمع الفلسطينيين العاجزين عن تحقيق المصالحة منذ نحو خمس سنوات، حيث لابد أن تعلن الأطراف علناً ورسمياً عن أن قضية الأسرى هي أولوية السلطة هنا وأولوية السلطة هناك، وان يبدأ الطرفان بعقد اللقاءات من اجل اعتماد برنامج مشترك لمتابعة هذة القضية على كافة الأصعدة الميدانية والسياسية والرسمية، بما في ذلك ملاحقة إسرائيل دولياً وحشد التأييد العربي والدولي لها.

لعل بحث الأخ خالد مشعل قضية الأسرى مع المصريين في زيارته الأخيرة للقاهرة وإعلانه التوافق مع الرئيس أبو مازن على التحرك الدولي في هذة القضية، ما هو إلا إشارة في هذا الاتجاه، وبالمثل يمكن تشكيل هيئات قيادية لمتابعة مواجهة الاستيطان، وقيادة الكفاح ضد الجدار، كذلك تشكيل الهيئات القيادية لفك الحصار، وإعادة إعمار غزة، وما إلى ذلك.

مثل هذه اللجان لا تقل أهمية عن لجان المصالحة المجتمعية، واللجان الخاصة بتشكيل الحكومة أو متابعة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، نقصد اللجان المنبثقة عن اتفاق القاهرة للمصالحة.

لابد من تعديل وجهة إعادة الوحدة الوطنية على أساس كفاحي ضد الاحتلال، حتى يغلق ملف المصالحة، باعتبارها كما كان حال الانقسام شكلاً من أشكال ثنائية _ الصراع والشراكة _ على السلطة.

يمكن أيضاً أن تتم إعادة الاعتبار إلى مفهوم السلطة، باعتبارها ليست شأناً حكومياً مرتبطاً بإدارة أحوال السكان وفق الميزانيات وما إلى ذلك، بل تقريبها من مفهوم القيادة السياسية الجبهوية، كما كان حال "م.ت.ف" التي كانت في الوقت الذي تدير فيه الشأن الوطني العام، كانت إطاراً جبهوياً يقود الشعب الفلسطيني إلى الاستقلال الوطني.

اعتبار معيار الكفاح ضد الاحتلال هو مفتاح كسب ثقة الناس لقيادتهم في المعركة وليس للسيطرة عليهم وتشكيل الحكومات وكأن فلسطين قد تحررت أو كأن الفلسطينيين قد استقلوا، بات أمراً ضرورياً، وهاماً للحد من شهوة السلطة والصراع المحموم عليها.

هناك فرصة حقيقية لاصطياد عصفورين بحجر واحد: الأول التقدم على طريق الوحدة الوطنية وإعادة اللحمة وإنهاء الانقسام، بما يحقق طموحاً شعبياً ويعيد الثقة الشعبية في قيادات الفصائل منفردة ومجتمعة، ودفع الروح المعنوية للمواطنين التي انخفضت كثيراً، ودليل ذلك استطلاعات الرأي التي تشير إلى تراجع نسبة التأييد لكل من "فتح" و"حماس" وكل القوى الأخرى لصالح تعريف نسبة كبيرة من المواطنين لأنفسهم على أنهم مستقلون، والأخطر انفضاضهم عن الفعل الوطني وعن الاستجابة لدعوات إطلاق المقاومة السلمية، وحتى الاهتمام بمعاناة غزة. والثاني هو بالطبع تفعيل الكفاح الوطني ضد الاحتلال بإطلاق كل وسائل وأشكال الكفاح الممكنة ضده، وضد المظاهر الاحتلالية في الضفة الغربية _ الحواجز والمستوطنات والمعابر، وفي القدس _ التهويد والاستيطان، وفي غزة _ الحصار، البحري خاصة، وقطع اتصالها الجغرافي والسياسي مع الضفة الغربية والقدس.

ثم توسيع دائرة الكفاح الوطني بفتح الأبواب لمشاركة الخارج، حيث ملايين الشتات، التي بدأت تتحرك في مناسبات النكبة والنكسة باتجاه الوطن، بما يفتح معارك ضارية وعديدة وواسعة ضد إسرائيل في كل المحافل الدولية: القانونية / القضائية، والإنسانية، وهكذا يمكن القول إن الفلسطينيين باتوا على طريق الوحدة ذات المعنى والجدوى، التي تقربهم من الاستقلال ومن نيل حقوقهم الوطنية، وإلا فإن التآكل سيظل واقعاً مريراً، ولن يفيد أحداً "تآكل" وحتى سقوط القوى السياسية الحالية دون أن ينشأ بديل عنها أو لها أكثر فاعلية وأكثر شباباً، أي دون تمكين الفلسطينيين من قوة التنظيم والقيادة على طريق الحرية والاستقلال.