إعادة بناء منظمة التحرير المهدمة
لا تغيب الدعوات الفلسطينية من أجل إعادة بناء منظمة التحرير حتى تعود للظهور من جديد، على قاعدة القناعة بأن إعادة بناء المنظمة ستغير الوضع الفلسطيني جذرياً، وستخرجه من التفكك والانقسام والمآزق التي يعيشها هذا الوضع منذ زمن طويل. وكأن إعادة بناء المنظمة سيكون لها مفعول السحر في نقل الوضع الفلسطيني من الحالة البائسة والمزرية التي يعيشها إلى أمجاد سابقة عاشتها منظمة التحرير في الزمن الجميل للوحدة الوطنية، كما يعتقد الدعاة المتحمسين لدعوات إعادة بناء منظمة التحرير.
وفي إطار مناقشة ما يمكن لإعادة منظمة التحرير تقديمه، نطرح السؤال التالي: هل الفصائل والقوى السياسية في الساحة الفلسطينية ما تزال تنظر لمنظمة التحرير بوصفها تشغل ذات المكانة التي كانت شغلتها في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن المنصرم؟ وهل الواقع السياسي الفلسطيني الحالي ما زال يمنح منظمة التحرير المكانة التي يدعيها أصحاب فكرة إعادة بناء المنظمة؟
لا شك بأن منظمة التحرير كنظام سياسي استثنائي، أجاب عن مطلب التمثيل الفلسطيني الذي احتاجته التجربة الفلسطيني من أجل التواجد على الخريطة السياسية للمنطقة بعد محاولة الإلغاء التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في نكبة 1948 والتي اختفى في ظلها وطنهم ببناء دولة إسرائيل على أنقاضه. وهذا ما جعلها إطاراً مؤسساتياً تمثيلياً وإطاراً هوياتياً بفعل افتقاد الجغرافيا السياسية للكيان الفلسطيني، إطار تمثيلي لأحلام الفلسطينيين وطموحاتهم. وبطبيعة الحالة هذا النوع من التمثيل السياسي المؤسساتي، هو تمثيل مؤقت، يجب أن ينتهي عندما يستعيد الفلسطينيين أرض وطنهم، ولأن التجربة الفلسطينية طالت أكثر مما يحتمل، ظهر المؤقت ليس فقط وكأنه ثابت تاريخي، بل وظهر كأنه معطى مقدس أيضاً، بوصفه ممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، باعتراف عربي ودولي، خاصة في ظل محاولات الإلغاء والشطب التي تعرضت لها المنظمة على مدار تاريخها.
ما أنجزه الشعب الفلسطيني في إطاره التمثيلي، منظمة التحرير الفلسطينية، من وجود على الخريطة السياسية لم يعد قابلاً للعكس، حتى لو اختفت منظمة التحرير، فالشعب الفلسطيني اليوم جزء مكون من جغرافيا المنطقة البشرية والسياسية التي لم يعد من الممكن تجاوزها حتى لو افتقدت كل أطرها التمثيلية وفصائلها السياسية. طبعاً، هذا لا يعني الدعوة إلى إلغاء الفصائل والتمثيلات السياسة التي باتت تتعامل مع المنظمة بصفتها أداة تكتيك سياسي في المماحكات مع فصائل أخرى. ما نريد قولة في هذا السياق، أن مؤسسات التمثيل السياسي تقوم لتمثيل شعب موجود في الواقع، وهذه المؤسسات لا تخلق هذا الشعب ولا تخلق الواقع، كما يدور في أوهام بعض الفصائل والشخصيات الفلسطينية التي ترى حياتها متعلقة بالمنظمة، وبدون المنظمة لا يوجد قضية فلسطينية. القضية الفلسطينية باقية ما بقيت مشكلة الشعب الفلسطيني بدون حل، بوجود منظمة التحرير أو بدون وجودها.
بالعودة إلى تاريخ المنظمة نرى أن تحولاً كبيراً جرى في مكانة منظمة التحرير خلال العقود القليلة المنصرمة. ارتبط هذا التحول بتشكيل السلطة الفلسطينية كنتاج لاتفاقات أوسلو بوصفها اتفاقات انتقالية للوصول إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية. وعندما قامت هذه السلطة على الأرض الفلسطينية امتصت كل القوة التمثيلية والسياسية التي كانت تشكلها منظمة التحرير في الزمن السابق. وأعتقد أن قيادة المنظمة وتحديداً الرئيس الراحل ياسر عرفات، كان متأثراً ، بشكل واعي أو لا واعي، بالصراع الذي دار في إسرائيل بعد تاسيس الدولة، بين بن غوريون وناحوم غولدمان، حول لمن الأولوية بعد تأسيس إسرائيل للمنظمة الصهيونية أم لإسرائيل؟ وكان الجواب الحاسم، أن المنظمة الصهيونية هي السقالة التي بنت الدولة، وعند قيامها واكتمال البناء لا تعد حاجة إلى السقالة التي يجب التخلص منها. وقد حسم الصراع لصالح الدولة وباتت المنظمة الصهيونية منذ حسم الصراع ملحقاً بدولة إسرائيل.
رغم الفارق الكبير بين التجربتين الإسرائيلية والفلسطينية، عندما تم تشكيل السلطة الفلسطينية تم نقل كل معطيات القوة الموجودة في منظمة التحرير إلى السلطة الوليدة، ففي الوقت الذي كانت مؤسسات منظمة التحرير بعد الخروج من لبنان 1982 إطارات هيكلية ذات تمثيل سياسي هوياتي، فإن السلطة باتت إطارات تمثيلية تملك معطيات القوة، شرطة، مساعدات دول مانحة، موازنات، وزارات... أرض تمارس سيادتها عليها، حتى لو كانت منقوصة. على هذا الأساس تم إلحاق المنظمة بالسلطة الفلسطينية، ولم يعد أحد يستدعيها إلا وقت الحاجة، وقد أصبحت التفاعلات السياسية الرئيسية تجري في إطار السلطة ومؤسساتها وباتت منظمة التحرير مجرد هيكل فارغ. لأنه ببساطة لا يمكن أن يوجد سلطتين مرجعيتين، فكان يجب أن تبتلع واحدة الأخرى، ولأنه حتى في صراع المؤسسات مثل الصراع في الطبيعة، الغلبة للأقوى، فإن السلطة كانت الأقوى، لذلك ابتلعت المنظمة التي أصابها الوهن والتلف.
الدعوات اليوم لإعادة بناء منظمة التحرير، هو محاولة لعكس التاريخ، واستدعاء زمن لم يعد قابلاً للاستعادة، على رغم كل عيوبها أدت منظمة التحرير دوراً تاريخياً عظيماً في التاريخ الفلسطيني، والحديث عن إعادة بناء أو إحياء منظمة التحرير، هو اعتراف بأنها مهدمة أو ميتة. وكل الدعوات على ما أعتقد هي محاولات لنفخ الروح في جثة هامدة، خاصة وأن القوى الداعية لإعادة البناء والمطلوب منها أن تنهض بهذه المهمة غير قادرة على حمل ذاتها أصلاً.