ماذا تقدم روسيا والصين للشعوب العربية؟

الموقفان الروسي والصيني من ثورة الشعب السوري، وبقية الثورات العربية، يطرحان مجموعة من الاسئلة المهمة المرتبطة بنظرة هذين البلدين الى المنطقة وشعوبها وانظمة حكمها ومستقبل علاقاتهما معها. كل من البلدين تقوده اجندة خاصة به محليا وعالميا ويموضع سياسته العربية والشرق اوسطية في سياق تلك الاجندة العريضة التي لا تأبه لمصالح الشعوب، بل تستحوذ عليها افكار التنافسات الجيواستراتيجية مع الغرب وايجاد مواقع نفوذ او تعزيز مصالح تجارية واقتصادية على حساب اي مسائل اخرى. الروس والصينيون لا يطرحون على الشعوب الاخرى اي نموذج قيمي للحكم الرشيد معني بتعزيز مفاهيم المشاركة السياسية والديموقراطية وتعزيز حقوق الانسان وترقية قيم المحاسبة والشفافية في الحكم والاقتصاد. لهذا لا نجد منظمات حكومية او غير حكومية صينية او روسية تعمل في المنطقة العربية او غيرها مناظرة للمنظمات الغربية التي تتبنى كل منها قضية او مجموعة قضايا تحاول تعزيزها مثل الديموقراطية وترسيخ مفاهيم حقوق الانسان والحريات الاعلامية والدينية وسوى ذلك كثير. بعض المنظمات الغربية لديها اجندات مرتبطة بدولها ويجب ان تكون مرفوضة، لكن الكثير منها منظمات غير حكومية وحقوقية صرفة مدفوعة بنوايا حسنة وتقف مع مصالح الشعوب والافراد ضد الطغيان والاستبداد. والشيء المهم في إطار منظومة القيم الغربية التي يحاول الغرب والمنظمات الغربية ترويجها هو وجود مرجعية ومبادئ نظرية على الاقل يمكن الاحتكام إليها. مثلا تزعم الدول الغربية بأنها تتبنى وتروج الى حقوق الانسان والديموقراطية والحريات الفردية والسياسية والاعلامية وتطبق هذه القيم وتحترمها. هذا يعني وجود لائحة قيم يمكن محاكمة الغرب نفسه بناء عليها. اما مشكلتنا مع الصين وروسيا فتتمثل في عدم وجود مثل تلك اللائحة وغياب اية مرجعية للاحتكام إليها ومحاكمة السياسة الصينية والروسية. كلا البلدين لا يهمه اي قيم محددة متعلقة بالشعوب، كل الاهتمام الصوري او الحقيقي يدور حول مفهوم "عدم التدخل في سيادة الدول واحترامها" وهو مفهوم ينطوي على تواطؤ مريع مع الدكتاتوريات في العالم، وعدم احترام ارادات الشعوب. التطبيق العملي لـ "احترام السيادة" يعني اطلاق يد حكام مجرمين للبطش في شعوبهم كما يشاؤون ومن دون ان يتدخل المجتمع الدولي – كما نرى الآن في المجزرة التي يقوم بها نظام الاسد ضد شعبه على مرأى ومسمع العالم كله.

النموذج الصيني في السياسة هو حكم الحزب الواحد الذي يسيطر بقبضة من حديد على مقدرات البلد وحريات شعوبه. صحيح ان الصين حققت معدلات نمو اقتصادي كبيرة برغم الاستبداد السياسي، لكن التاريخ السياسي الحديث للعالم يقدم لنا الدرس تلو الآخر حول قصر عمر التقدم والنمو الاقتصادي ان لم يرافقه ويعززه تقدم ونمو سياسي. الاقتصاد القوي القائم على ارضية استبداد سياسي يتأسس على ارضية هشة ولن يقوى على مواجهة التحديات المتجددة على قاعدة قمع حريات البشر والحيلولة دون انطلاق ابداعاتهم ومشاركتهم في تقرير مستقبلهم. ولأن "النموذج الصيني" يحتقر الحريات السياسية ويعلي من شأن التركيز على الاقتصاد فقد انتهت علاقات الصين الخارجية الى منظومة من التحالفات مع الانظمة المستبدة في طول وعرض العالم، بدءًا من كوريا الشمالية وليس انتهاءً بسورية بشار الاسد. ولأن "النموذج الصيني" يحتقر الحريات السياسية فقد توترت النخبة الحاكمة في بكين، ولا تزال متوترة، إزاء الربيع العربي والثورات التي خلعت انظمة مستبدة في المنطقة. ولم تحظ ثورات شعوب العرب إلا بأقل تغطية ممكنة في وسائل الاعلام الصيني، كما تؤكد تقارير بحثية واعلامية. ولأن النخبة الحاكمة تدرك أن قمعها للحريات وحقوق الانسان وازدراءها للديموقراطية تسير بعكس طبائع الاشياء فقد خشيت من تداعيات الربيع العربي على الرأي العام الصيني وتحفيزه للثورة.

"النموذج الروسي" الحالي في السياسة هو قريب ايضا من حكم الحزب الواحد. صحيح ان هناك انتخابات لكن الكل يعلم انها انتخابات مشوهة ونتيجتها كانت معروفة منذ اربع سنوات، اي منذ تنحى فلاديمير بوتين بعد فترتين رئاسيتين لخلفه ميدفيديف الذي قبل ان يلعب دور شاهد الزور حتى يعود بوتين للحكم مرة ثالثة. قبضة بوتين على روسيا تعيد انتاج الستالينية لكن في قالب ديموقراطي مزيف. داخليا المفهوم الذي تعززه البوتينية وتختفي خلفه هو "الديموقراطية السيادية" والتي تعني تبني الديموقراطية داخليا من دون السماح للخارج (للغرب) بأن يتدخل فيها، إن عن طريق جمعيات ديموقراطية تراقب نزاهة الانتخابات، او عبر مراقبين، او اي شيء قريب من ذلك. المسوغ الاساسي الذي تقوم عليه "الديموقراطية السيادية" هو ان الغرب يتدخل عبر عملائه في الديموقراطية الروسية الامر الذي يجب ان يوضع له حد. "الديموقراطية السيادية" وقطع الطريق على التدخل الخارجي ومنعه من العبث بالداخل، اي داخل، هي منطلقات جذابة من ناحية شعاراتية ونظرية. لكن المشكلة تكمن في ان كل نظام مستبد وسلطوي يمارس بطشه وتسلطه وفساده تحت اجمل انواع الشعارات واكثرها بريقا، وهو ما يحدث في روسيا بوتين هذه الايام. لذلك فإن كل معارض لبوتين وسياسته يتهم على الفور بالولاء والعمالة للغرب، وهو ما كنا وما زلنا نشهده في المنطقة العربية والعالم الثالث طولا وعرضا. وكل انتقاد اعلامي لسياسة بوتين يصنف بأنه يصب في مخطط غربي ضد "الديموقراطية السيادية" لروسيا. إذن هذا هو النموذج الروسي البوتني الذي تتبناه موسكو وتعرضه على الشعوب العربية: ديموقراطية مشوهة وانتخابات يتم هندسة نتائجها مسبقا تعيد انتاج الاستبداد القائم على فساده، ومنع اي تدخل من قوى داخلية او خارجية لاصلاح المسار الديموقراطي باستخدام سيف الاتهام بالعمالة. اليس هذا هو النموذج المثالي لحاكم مثل بشار الاسد اعلن خطوات "اصلاحية" لإحلال "ديموقراطية سيادية" في سورية، وعبر سلسلة من الخطوات والمراحل التي تستلهم التجربة البوتينية وتعيد انتاج نظام الاسد وعائلته وبطانته "ديموقراطيا وانتخابيا"؟