دروس وواجبات مستحقة!
أفترض ولا أتوقع، أن تقف القيادات السياسية المتحكمة بمصير الشعب الفلسطيني، أمام ضمائرها الوطنية، وأن تضع جانباً الحسابات الفئوية، والمؤثرات الخارجية على أهميتها، وأن تستخرج على نحو موضوع نزيه دروس تجربة الإضراب الكبير الذي تخوضه الحركة الأسيرة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع.
ليس من العيب أن تستفيد القيادات السياسية من تجارب كوادرها وقياداتها وأعضائها، وحتى أن تستفيد من تجارب أعداء الشعب الفلسطيني، بل العيب كله في أن تتمترس هذه القيادات خلف ما تعتقد أنه الموقف السليم، بينما تدل الوقائع على أن لا أحد يملك الحقيقة كلها، وأن الموقف السليم هو الذي يعكس مصالح الشعب والقضية الفلسطينية، ويقربه من تحقيق أهدافه، وغني عن البيان أن القيادات التاريخية الناجحة هي التي تتمكن من إجراء المساومات الداخلية في صفوف الشعب، من أجل تقوية العامل الذاتي، حتى لو أدى ذلك إلى تقديم تنازلات، طالما أن المفاوضات والنضال ضد الاحتلال تنطوي على إمكانية تقديم تنازلات، كنا قد قدمنا منها الكثير الكثير على خلفية اتفاقية أوسلو، ومن أجل استعادة الأراضي المحتلة منذ العام 1967. يستطيع المواطن العادي أن يستخرج وبسرعة جملة من الدروس التي تقدمها الحركة الأسيرة، أما القيادات والسياسيون عموماً فإنهم يستطيعون تقديم تحليلات أعمق عن تلك الدروس. واقع الحال الفلسطيني على بؤسه وانقساماته وخلافاته، وتشرذمه، لا يدعونا لإعلاء السقوف، ولا للحديث عن تطلبات صعبة، ولذلك فإننا نكتفي فقط بما هو ظاهر للعيان من دروس تجربة الحركة الأسيرة، وهذا كاف للانتقال بالوضع الفلسطيني من حال إلى حال انتظرناه طويلاً، لكن العين بصيرة واليد قصيرة؟!
وبطبيعة الحال يمكن أن نتأكد من أن كل العيون الفلسطينية بصيرة، فالكل يعرف متطلبات الخروج من واقع الحال البائس، ولكن القيادات السياسية هي المعنية والمتهمة بقصر ذات اليد، ولأسباب غير مفهومة وغير مقبولة.
أول هذه الدروس أن الحركة الأسيرة لم تعلن الحرب على المحمل والجلاد الإسرائيلي، فهي لا تملك لا صواريخ ولا بنادق ولا رشاشات، ولا حتى سلاحاً أبيض، إنما تمتلك ما هو أقوى وأمضى، وهو سلاح إعلان الحق، وسلاح الأمعاء الخاوية، وهي أسلحة تستدعي التضحية، لكن نتائج استخدامها تؤكد القدرة على تحقيق انتصار. والانتصار الذي سيحققه الأسرى ليس انتصار الفرد أو مجموعة أفراد، وهو ليس انتصاراً لفريق أو فصيل أو فئة من الأسرى وإنما هو انتصار وطني بامتياز.
ينتاب إسرائيل خوف شديد واضح، من استمرار وصمود الإضراب، وتداعياته، سواء على حياة بعض الأسرى، والأهم بالنسبة لإسرائيل، ما يجري من محاولات جادة لتدويل الملف. لقد جرى حتى الآن تدويل الملف على المستويات الشعبية، وعلى مستوى مؤسسات الرأي العام، بما في ذلك في العديد من البلدان الأجنبية، وننتظر أن يطرح هذا الملف على مستوى المؤسسات الرسمية للأمم المتحدة، وعلى مستوى البرلمانات العربية والإسلامية، وفي البلدان الأجنبية التي تتواطأ مع الاحتلال أو تقدم له الدعم.
في مواجهة إضراب الحركة الأسيرة لا تستطيع إسرائيل أن تفعل أو تستخدم ترسانتها العسكرية، فلقد نجحت الأمعاء الخاوية في التغلب على أسلحة الدمار الشامل التي تملك منها إسرائيل المحتلة الكثير الكثير. ليس أمام إسرائيل سوى خيار واحد وحيد، وهو الرضوخ لإرادة الأسرى، والاستجابة للأهداف التي تقف وراء الإضراب. في إسرائيل تقوم اليوم، حكومة أغلبية ساحقة، تحظى بدعم نحو 94 عضو كنيست، إنها حكومة غير مسبوقة من حيث قوتها، ومن حيث شمولية التمثيل السياسي والبرلماني، ومن حيث الاستقرار والاستمرار حتى الانتخابات القادمة في موعدها الطبيعي.
مثل هذه الحكومات في تاريخ إسرائيل هي حكومات حرب، وليست حكومات سلام كما يدعي بنيامين نتنياهو، لكن حكومة الحرب القوية هذه ستنهزم أمام قوة إرادة وصمود الأسرى الفلسطينيين.
ثاني هذه الدروس يكمن في قوة الإرادة، وقوة الصمود، وعمق الإيمان بالحق، وبالقدرة على تحقيق الانتصار. اسألوا جهابذة التاريخ وجهابذة العلم، واسألوا أفضل الأطباء، إن كان الإنسان يستطيع الصمود، كما يصمد ثائر حلاحلة، وبلال ذياب لما يقرب من خمسة وسبعين يوماً، وحسن الصفدي لما يقرب من سبعين يوماً.
إن هؤلاء وأقرانهم المضربين منذ نحو خمسة وعشرين يوماً، هم بشر عاديون ولكنهم يملكون إرادات غير عادية، إرادات استثنائية في صلابتها، إرادات مجربة، أرغمت الاحتلال على الإفراج عن الشيخ خضر عدنان، وعن الشابة هناء شلبي، هي إرادة غير قابلة للانكسار.
وحتى الآن أجبرت هذه الإرادة الصلبة الاحتلال على إلغاء ما يسمى بقانون شاليت، سيئ الصيت والسمعة، والذي استمر العمل به رغم الإفراج عن الشخص الذي تسبب أو شكل موضوعه الذريعة لإصداره، كما أرغمت الاحتلال على الموافقة لإنهاء العزل الانفرادي، وتحديد سقف الاحتجاز الإداري بحيث لا يتم تمديده أكثر من مرتين. كما أرغمت الاحتلال على الإذعان لحق أهالي الأسرى من قطاع غزة بزيارتهم بعد أن منعت عنهم هذا الحق لنحو سبع سنوات.
في الواقع تقدم تجربة الحركة الأسيرة، درساً فيما يتعلق بموضوع التفاوض، إذ ليس أمام صاحب القوة المحتلة أن يرضخ أمام قوة الحق الفلسطيني، ولم يعد بعيداً الوقت حتى يرضخ صاحب القوى المحتلة لكل مطالب الحركة الأسيرة، التي قد يؤدي استمرارها لفترة أطول، لاندلاع ثورة شعبية عارمة تخشى إسرائيل المدججة بالسلاح، من أن تطيح بهيبتها، ومن أن تمرغ أنفها في تراب الأرض الفلسطينية.
الدرس الثالث له علاقة بالعقل الجماعي، ووحده الموقف والقرار والأداء، إذ يقف الكل الفلسطيني داخل سجون الاحتلال خلف قيادة واحدة موحدة، لم ينجح الاحتلال بتهديداته وإغراءاته من اختراقها، أو بث الفرقة بين مكوناتها. القيادة الجماعية للحركة الأسيرة تقدم نموذجاً للتوافق، وشمولية التمثيل وديمقراطية القرار، وتقدم نموذجاً ملموساً على أهمية الوحدة الوطنية حين تصبح الأهداف والمصالح الوطنية فوق المصالح والأهداف الفئوية والخاصة.
أما الدرس الرابع، فيشير إلى إن الاشتباك مع العدو المحتل، هو السبيل لتوحيد القوى والطاقات، ولاستعادة ثقة الجمهور بقياداته، والتفافه حول مواقفها الصحيحة، فلقد استثارت قضية الأسرى همم كل الشعب في مختلف أماكن تواجده، رغم استمرار الانقسام والاختلاف.
بقي أن نذكر القيادات السياسية، بأن عليها أن تتمثل الدرس الكبير الذي تقدمه السياسة الإسرائيلية هذه الأيام، لمجابهة ما تعتقد القيادات السياسية على أنها تحديات خطيرة تستدعي توحيد الجهود. لم تستغرق المفاوضات من أجل انضمام حزب كاديما للحكومة أشهرا وسنوات، ولم نلاحظ أن كاديما، حصل على امتيازات ومواقع تكافئ وزنه في الكنيست وفي الحياة السياسية، ولكنه قدم المصالح العامة الإسرائيلية على مصالحه الفئوية.
المقارنة مخجلة أكثر مما ينبغي، ففي حين يتوحد الإسرائيليون على نحو يفوق الخيال ينقسم الفلسطينيون على نحو يفوق الخيال أيضاً، من حيث المخاطر التي تترتب عن استمرار هذا الانقسام والتشرذم والضعف.