المناظرة شكلاً ومضموناً
أضفيت على مناخ الانتخابات الرئاسية في مصر، إحدى لمحات السباق في الديموقراطيات الغربية، حيثما تكون مؤسسات الدولة ومجتمعها، قد تجاوزوا فرضيات التزوير، وترسخ لديهم الشعور بتكافؤ الفرص. وهذه لمحة اقتنصت قناة رجل الأعمال أحمد بهجت، ربحها الإعلاني الوفير، مثلما اقتنصها المرشحان الأعلى اسهماً على قائمة الاستطلاعات. وكانت تدابير استنطاق المُرشحيْن عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح، في طورٍ يتسم بالتجريب، على صعيدي الطرف الذي أدار الحوار والرجلين المتنافسين. ذلك على اعتبار عدم وجود سابقة من هذا النمط في أية انتخابات رئاسية مصرية وعربية. فمن حيث الشكل، لم تكن ضوابط عملية تنظيم الحوار، التي عُرضت على المرشحيْن للرئاسة، قبل بدء المناظرة على الهواء؛ كافية لأن تمضي الأمور بتلقائية، دونما حاجة الى تدخل منى الشاذلي أو يسري فودة، للتنبيه الى الضوابط وتكرار الملاحظات. لكن التقييم الإجمالي لحدث المناظرة التي رُتبت في عُجالة، أن هذه السابقة أسست لتقليد ديموقراطي، من المؤكد أنه سيتطور من حيث الشكل، وسيصبح جزءاً من كل حدث انتخابي لاحق، على هذا المستوى!
* * *
من حيث المضمون، كان هناك متنافسان، ينتمي كل منهما الى فضاء وتجربة، مغايراً لفضاء وتجربة الآخر. عمرو موسى، جاء من قلب السلطة. فإن عددنا سنواته في مواقع المسؤولية منذ أن عمل مندوباً دائماً لمصر في الأمم المتحدة؛ يكون أمضى في هذا الفضاء اثنين وعشرين سنة. أما عبد المنعم أبو الفتوح، فهو معارض جاء من خارج السلطة، ويصغر عمرو موسى بخمس عشرة سنة. وكان طبيعياً، وهو، في موقع المعارضة، أن يعتنق رؤية أيديولوجية تفنّد مساوىء السلطة وتضع مقاربات لبدائلها. ومن الطبيعي أيضاً، وقد نما وعيه السياسي مع ظهور ما يُسمى بـ "الصحوة" الإسلامية، أن يكون خياره إسلامياً. أما عمرو موسى، فقد التحق بالسلك الديبلوماسي، في العام 1958 أي بعد عام واحد من تخرجه كالآف من زملائه الذين لا تكفيهم السنة الواحدة، استصدار بطاقة المحامي المؤهل لمزاولة المهنة. وكان ذلك الالتحاق بعصب السلطة، سبباً في عدم حاجة عمرو موسى، لأية أيديولوجيا أو لامتشاق أي نص غير نصوص السياسة الرسمية. لذا كان من بين نقاط كثيرة، لم تطرأ على بال عبد المنعم أبو الفتوح في المناظرة، التذكير بنعيم السلطة العاجل، الذي فاز به منافسه مبكراً، بخلاف آلاف من زملائه خريجي الحقوق. وكان من بين ما لم يطرأ على ذهن أبي الفتوح، أن إسناد منصب أمين عام الجامعة، لم يكن يشكل وضعية انفصام عن السلطة، وإنما العكس هو الصحيح، إذ يُعد تخصيصاً له ومنحة واصطفاء، من قبل الرئيس السابق مبارك تحديداً، على قاعدة الثقة العالية بالرجل، للاضطلاع بمهمة ترؤس جهاز جامعة الدول العربية!
عمرو موسى، في ردوده وفي مداخلات التفنيد والإجابة عن الأسئلة، كان يعبر عن منطق السياسي المخضرم، الذي يعرف مواضع الحذر ويقتصد في الوعود، كلما تعلق الأمر بالسياسات. وكان أكثر براعة في التأكيد على أهمية سد الثغرات في وضع الدولة، لكي لا ينفتح بطنها، بجريرة فرضيات نظرية، وبموجب رؤية تتخطى حدودها، فيما هي أحوج الى من ينهض بها. وبدوره، كان أبو الفتوح، منطقياً وبارعاً في وضع مقاربات، لترميم بُنية الدولة من الداخل، وبدا أقرب الى الطوباوية في التعبير عن نكران الذات وسمو الروح، وبهذا المنحى كان يداعب مشاعر جمهور، كانت ظاهرة الفساد والنهب المنظم والبذخ السفيه، هي أكثر ما أثار حفيظته وغيظه. وفي هذا السياق، أوقع أبو الفتوح نفسه في خطأ التبسيط الشديد، عندما تأفف من قصور الرئاسة، التي ستظل حكراً على الرئيس، وبدا كما لو أنه يرغب في إدارة عمله في رئاسة الجمهورية، من شقة في الطابق الأرضي من بناية، وهذه ملاحظة اقتنصها عمرو موسى، ليلمح الى ضعف ثقافة الدولة عند منافسه. فالدولة في مصر، منذ أيام أسرة محمد علي، جعلت من بين عناصر إظهار هيبتها، الاعتناء بقصورها ومقرات مؤسساتها، لأن البلديات، في الدول الديموقراطية، تقبع في أبهى القصور القديمة. وفي مصر، حافظت الدولة على مقرات إدارية عسكرية، في مناطق من قلب العاصمة، هي الأعلى ثمناً في أسعار أراضيها، وأحاطت هذه المقرات، بأسوار باذخة البناء، بل إن بعض هذه المقرات، تكاد لافتاتها تنطق بأن مكانها الطبيعي هو الصحراء أو أطراف المدينة، كمقر "إدارة المدرعات" أو "اللوازم" وغيرهما، الماكثة على مساحات تساوي ـ إن استثمرت ـ مليارات الجنيهات!
أبو الفتوح تحدث عن اصطفاف لشرائح من كل ألوان الطيف، تأييداً لترشحه. وعمرو موسى يرد عليه، قائلاً إن سبب هذا الاصطفاف، هو أن الرجل أسمع كل طيف، ما يحب سماعه، وأن هذه ـ بالمعنى ـ ظاهرة غير صحيّة، وكاد يقول إنها تضاهي التحايل. لكن عمرو موسى، بدا فاتراً حيال موضوع الدين الإسلامي، وهذا سيخصم من رصيده، وإن كان الرجل صادقاً مع نفسه في هذه النقطة. فالمناخ النفسي في مصر، وحال الوعي في البلاد، ينـزع الى الاطمئنان بالدين، على الأمانة في تحمل المسؤولية. بل إن إسلاميين شديدي البلاغة، يلاقون من يغمز من قناة مصداقيتهم، بعد أية هفوة، إذ يتوخى المصريون الأصفى والأكثر نقاءً على هذا الصعيد، فما بالنا عندما يكون الطرح الديني غائباً أو فاتراً على لسان رجل يخوض انتخابات رئاسية!
أبو الفتوح لم يستطع الرد على عمرو موسى الذي ركز على التجربة وعلى ضرورة وجود خبرة في إدارة الدولة وعلى أهمية أن يتولى رجل دولة رئاسة الدولة. وفات أبو الفتوح، أن يذكرّ بأن جمال عبد الناصر، بدأ يدير الدولة ويخوض معاركها الخارجية ومن بينها معركة الجلاء، وهو في سن الرابعة والثلاثين، وبلا تجربة في الحكم، إن لم يكن التذكير جائزاً، بأن فاروق الأول، ملك مصر قبل الثورة، تسلم الحكم صورياً في سن السادسة عشرة، وفعلياً في سن العشرين، وأطيح به في سن الثانية والثلاثين، عندما كان الناس يتصورونه ديناصوراً!
لقد اظهرت المناظرة، في مضمونها، أن الرجلين متقاربان، وأن السباق ستكون له إعادة. نقطتا ضعف موسى، في هذه المرحلة ذات المناخ الخاص، هما الفضاء الذي جاء منه، وفتور الخطاب الديني أو غيابه. أما نقطتا ضعف منافسه عبد المنعم أبو الفتوح، فالأولى هي تخوّف كتلة معتبرة من الناخبين (أقباطاً وليبراليين وقوميين) من مرجعيته "الإخوانية" وبخاصة بعد أن أظهرت "الجماعة" بعض الممارسات والمواقف، التي هزت صدقيتها. والنقطة الثانية، هي من صنف الأولى، بمعنى أن جمهور "الإخوان" سيقاطعه لصالح مرشح "الجماعة" لكي تصبح هذه الأخيرة، قد آذت عبد المنعم أبو الفتوح مرتين، واحدة عندما ختمت شخصيته بخاتمها، فجعلته محسوباً عليها ولو بمهجة الروح، والثانية عندما قاطعته بعد أن خرج عليها!