نحن نغرق يا سادة ..!
المفارقة التي تعبر بأقصى وضوح عن مأساة الفلسطينيين كانت مساء الخميس الماضي بينما كان قادة الحركة الاستيطانية في الضفة الغربية يخططون بشكل معلن لاقتحام الأقصى في اليوم التالي، في نفس اللحظة كانت الأطراف الفلسطينية غارقة حتى أذنيها بالاختلاف على الحكومة القادمة وحصصها.
وللمفارقة أيضاً فيما كان الفلسطينيون منشغلين بمحاولات استهلكت كل الجهد الفلسطيني والرأي العام المشدود لمصالحة لم تأت بعد وتحضيرات للقاءات القاهرة والدوحة واجتماعات اللجان واللقاءات حلال الأسبوع الماضي، كانت إسرائيل تقطع شوطاً في تطبيق مشروعها بالقضاء على ما تبقى من حلم للفلسطينيين بإقامة دولة وما تبقى من أراض يمكن أن يقف عليها المشروع الفلسطيني.
قبل ثلاثة أيام صادقت لجنة التخطيط المحلية في سابقة خطيرة تحمل مدلولاتها المستقبلية على تسجيل رسمي لأرض مطار قلنديا "كأرض بلدية للأغراض الصناعية" وهو المطار الذي يقع على مداخل مخيم قلنديا، وقد سبق الحديث عن أن هذا المطار سيكون المطار السيادي للفلسطينيين في حال الاتفاق على تسوية وحل الدولتين، هكذا قالت تسيفي ليفني للدكتور سلام فياض حين كانت وزيرة خارجية سابقاً، وقد كان هذا المطار تابعاً لسلطة المطارات، وترمي هذه المصادقة التي تمت وسط الانشغال الفلسطيني عن الصراع لدرجة العمى إلى القضاء على ما يمكن أن تشكل رموزاً سيادية مستقبلية وتغلق الباب أمام كل آفاق التسوية، بالإضافة إلى أنها تكشف عن السلوك الإسرائيلي بالقدس باعتبار أن مطار قلنديا يقع على أطرافها، وبالتالي فإن المشروع الإسرائيلي يتقدم بشكل منظم لتخدم التفاصيل كليات المخطط الذاهب نحو ما هو أبعد من ذلك.
وفي نهاية الأسبوع أيضاً صادقت لجنة التخطيط العليا في الإدارة المدنية على مخطط هيكلي لبناء 695 وحدة سكنية في مستوطنات (شافوت راحيل) و(شيلو) وتوسيع المستوطنات بمصادرة مزيد من الأراضي وفي نهاية الأسبوع أيضاً اقتحم جيش المستوطنين باحات المسجد الأقصى ولم يجدوا سوى بعض العجائز للدفاع عنه، وفي نهاية الأسبوع كان الفلسطينيون يجتمعون في فنادق القاهرة يخوضون صراعهم على جبهة أخرى .. هي جبهة الحكومة.
ما أعلن إسرائيلياً عن مصادرة للأراضي وتوسيع للمشروع الاستيطاني مر بهدوء وسط انشغال الفلسطينيين بأزمتهم الداخلية وانشداد الرأي العام للقاهرة، وما يمكن أن يحمل لهم من أمل كان عزيزاً لسنوات أحيته الدوحة، هذه المخططات الاسرائيلية لم تكن مصادفات متناثرة بقدر ما أنها جزء من مشروع متكامل تلعب التفاصيل دور الجزئيات المنظمة، فقد كشف قبل أيام عن خطة هي الأخطر هي خطة "بينيت" والتي ترمي إلى مصادرة 62% من أراضي الضفة الغربية وتدعيم فصل كامل بين الضفة وغزة وضم غزة إلى مصر بشكل تدريجي.
لا يمكن النظر إلى هذه الخطة باعتبارها أحلام مستوطنين بل أنها تكشف بشكل فعلي عن ذروة المشروع الإسرائيلي ورؤيته تجاه الفلسطينيين، صحيح أن الذي تقدم بالخطة هو مدير عام المجلس الاستيطاني بالضفة الغربية " نفتالي بينيت" الذي سميت الخطة على اسمه، لكن ما يثير الخوف هو أن الحكومة والشارع الإسرائيلي يتجهان نحو اليمين المتطرف وتصبح الحكومة ممثلة للسياسة الاستيطانية ومنفذة لمشروع الاستيطان، ربما أن الانتخابات الأخيرة في الليكود التي تمت الشهر الماضي وأظهرت وصول نسبة كبيرة من المستوطنين إلى مركز الحزب والتحكم في قراراته تجعل الاعتقاد بتطبيق هذه الخطة لتتحول إلى سياسة الحكومة القادمة وخصوصاً أن الحكومة ترتكز على أحزاب أخرى دينية قد يبدو الليكود بتطرفه أمامها كحزب حمائم.
وتقضي الخطة بأن تقوم إسرائيل بضم مناطق "ج" بشكل أحادي حيث يقول بينيت أن على الدولة أن تتخذ مبادرة مستقلة تدعم مصالحها الحيوية لتأمين القدس وتل أبيب الكبرى فضلاً عن السيادة على مواقع التراث اليهودي ويقصد الضفة الغربية قبر يوسف في نابلس ومغارة الماكفيلا بالخليل وقبة راحيل في بيت لحم، ويقترح تجنيس 50 ألف فلسطيني يسكنون في منطقة "ج" لتجنب حجة الفصل العنصري ووفقاً للخطة فأن الأراضي التي ستضم "62%" ستشكل تتابعاً جغرافياً لإسرائيل لتشمل غور الأردن والبحر الميت والمستوطنات بالضفة ويعترف صاحب الخطة باضمحلال حل الدولتين وإلى الأبد.
ومن المفارقات أيضاً أن الاتحاد الأوروبي تنبه قبل حوالي شهرين إلى السلوك الاستيطاني والممارسات ضد السكان في منطقة جيم مدركاً أن إسرائيل تسعى لابتلاع هذه المنطقة الكبيرة للقضاء كما اعترف إسرائيليا على حل الدولتين، حيث دعا الاتحاد إلى ضرورة العمل في تلك المنطقة وتعزيز صمود المواطنين فيها ودعمهم ورصف الشوارع ودعم البنية التحتية، وهنا المفارقة الأخرى الاتحاد الأوروبي هو من يقرأ النوايا الاسرائيلية العدوانية ويحذر منها ويبدأ بالعمل نيابة عن الفلسطينيين فيما هم غارقون في خلافات توزيع السلطة.
وبينما يجري العمل إسرائيليا على قدم وساق في الضفة الغربية بتكامل الأدوات من لجان تخطيط محلية ولوائية وإدارة مدنية وقرارات حكومية وهجوم مستوطنين برعاية الحكومة والجيش حيث يشهد المشروع الإسرائيلي نجاحاً في الضفة الغربية، بالمقابل فإن نجاح المخطط الإسرائيلي ضد قطاع غزة قد ذهب بعيداً فقد انفصلت غزة عن الضفة ولم تعد مرتبطة بها وقد تكرس ذلك خلال السنوات الماضية وبالمعنى السياسي أيضاً، وكانت غزة تذهب باتجاه مصر وبمساعدة الفلسطينيين أنفسهم وهنا الأخطر، ففي ذروة الحصار وازدياد الاختناق عجزت حركة حماس عن رؤية خطورة الأمر والتي كان يعنيها كسر الحصار والتغلب على المنع الإسرائيلي لتجد نفسها تذهب جنوباً لتوفير إمكانيات الحياة، وكلما أغلقت إسرائيل على سلعة أو صنف محدد بتخطيط محكم اجتهد الفلسطينيون في توفيره من مصر بدل فضح إسرائيل ومشروعها والعمل ضده كان الفلسطينيون في غزة يسيرون إلى جانبه مستدرجين للكمين الإسرائيلي وصولاً إلى ربط الكهرباء بعد السولار والبنزين، ولا تزال إسرائيل تدفع بالمشروع الذي تمت دراسته في مؤتمر هرتسيليا التاسع الذي قال "من أجل الأمن القومي على المدى الاستراتيجي يجب دفع غزة جنوباً".
لم يتوقف الفلسطينيون المشغولون بصراعهم الداخلي وصراعهم على السلطة والمجردون من مراكز دراسات لقراءة النوايا والمشاريع الاسرائيلية لم يتوقفوا للنظر حولهم وما تخطط له إسرائيل، وحتى بعد خمس سنوات من تآكل مشروعهم وتحقق المشروع الإسرائيلي، ما زال هناك وسط هذه الأزمة الكبرى من يقاتل على وزارة ويعيق وحدة النظام السياسي ويمنع المشروع الفلسطيني الذي أطلقت النار على قدميه من الوقوف مجدداً، فالمشروع يغرق أيها السادة فلا وقت أكثر للقاءات المزمنة فالوقت من أرض.. والوقت من قدس تتلاشى أمام أعين الجميع لم تجد من يدافع عنها بأجسادهم العارية فلو كان الأمر يتعلق بدعاية انتخابية لكانت الجموع تملأ الشوارع... كفى ...!