أوهام في العقل الفلسطيني
في حياتنا كفلسطينيين أوهامٌ كثيرة، وطرق تفكير سلبية، ولأن التغيير وبناء المستقبل يبدأ بتنقيح الماضي والحاضر، تأملت بعضها فخرجت هذه الكلمات من بعض شتاتنا بهدف.. التأمل والبناء.
(1)
يقول كثيرٌ من الفلسطينيين الشيء نفسه أمام كاميرات التلفزة: "نوّجه نداءنا إلى أحرار العالم.. "، "أين أنتم يا عرب؟"، "ننادي ونناشد العالم أجمع...". لا جدال على أن فلسطين هي قضية العالم العربي كله، وقضية المسلمين أجمع، بل هي قضية كل حرّ في العالم، ولا نقاش على أن كل واحد ممن ينتمي لأي من الدوائر تلك عليه واجب نصرتها ونشر الوعي حولها. لكن، لا شك أن المعنيين المباشرين هم الفلسطينيون أنفسهم، هم الذين يذوقون الظلم بأشكاله المتعددة يومياً، هم الذي تلحق بهم العذابات من وحشية الاحتلال واجراءاته، وإن لم يوجهوا "النداء" لأنفسهم أولاً فلن ينصرهم أحد، وإن لم يتحركوا هم أولاً فلن يتحرك لهم أحد.
ماذا تقول عن المريض الذي يرجو الطبيب أن يعالجه بينما هو لا يلتزم بالابتعاد عما يؤدي إلى المرض؟ كيف ينتظر الفلسطينيون من أشقائهم الدعم والمساندة وهم يتكاسلون عن نصرة أنفسهم؟ إذا لم تقف لنفسك فلن يقف لك أحد! إذا لم تقف لشيء في الحياة، فستنهار لأي شيء.
كيف يريد الفلسطيني الجالس على مقهى في رام الله يحتسي الكابتشينو ويفكر بقرضه الذي سيسده لقاء سيارته الانيقة أخر الشهر، كيف يريد لأخيه المصري أو الأردني أو الماليزي أن ينصره، إن لم ينصر نفسه أولاً؟! هل نطلب من المصري أن يتظاهر دعماً لنا ونحن لا "ندعم" أنفسنا بما فيه الكفاية وبما يتطلبه الواقع؟
باختصار: على عاتق الفلسطيني الواجب الأول.. العمل والتغيير يقع عليه أولاً.. ولكنه مع ذلك ليس الأخير!
(2)
كيف يتحمل قلب فلسطيني حرّ أن يمشي في مظاهرة ضد الاحتلال وهو يحمل علم الحزب الذي ينتمي إليه؟ كيف يجرؤ فلسطيني حرّ على حمل علم الحزب يوم النكبة أو يوم الأرض؟ كيف يرضى الفلسطينيون على أنفسهم أن تتلوّن مظاهراتهم بأعلام الأحزاب، مع رتوش هنا وهناك من أعلام فلسطينية يحملها بعض الصبية؟ كيف ينظر الفلسطيني إلى نفسه وهو يرى ابن لندن وابن امريكا يحمل علم فلسطين في مسيرات تضامنية بينما هو يحمل علم فصيله؟ بعض الفلسطينيين استبدلوا الحزب بالوطن، ونسوا أن الأحزاب لولا الأوطان ما وُجدت .. وأنها جسر عبور وأنها وسيلة لا أكثر .. وأن الوطن يسع الجميع. بعض الفلسطينيين يحفظون أسماء القادة في أحزابهم أكثر من حفظهم لأسماء مدنهم وقراهم! بعض الفلسطينين قد يغضب لاعتداء لفظي على قائده أكثر من اعتدائه على سرقة أرضه! بعض الفلسطينيين يحفظ تواريخ انطلاقة الاحزاب الفلسطينية ولكنه لا يعرف تاريخ تهجيره من قريته.
(3)
مشاهد الاحتلال صريحة حد القتل، هنا جدار، هناك مستوطنة، هنا حاجز مرّ عليه المدوعون، هنا عصير تم شراؤه من شركة اسرائيلية ليشربه المدعون. المناسبة: حفل افتتاح مدرسة أو شارع أو مركز صحي في قرية من قرى فلسطين. المال: مال أمريكي أو أوروبي. المتحدثون: بدلات رسمية فوقها رؤوس تمتلك ألسنة تردد الكلام نفسه الذي نسمعه في كل حفل وكل اجتماع: إن هذه الخطوة في واحدة من الخطوات في مسيرة بناء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
اسمح لي أن أقبل يديك مقابل أن أفهم على أي مقاس قمت بتفصيل حلمك هذا؟ اسمح لي أن أقبل يديك، فقط أخبرني هل أنت تصدق ما تقول؟! أي دولة؟ هل رأيت دولة تعيش على أموال المساعدات الخارجية، هل تُسمى أصلا دولة؟! قل لي بالله عليك، كيف يكون حفل افتتاح المبنى هذا خطوة في بناء الدولة؟ ماذا عن خطوات التخلص من المستوطنات التي تقع على مرمى نظرك؟ ماذا عن العصير الذي ستتذوقه أنت ومن يرافقك والذي أنتجه تلك المستوطنات الواقعة على أراضيك سابقاً؟
كيف يمكن لشعب محتل أن يتحرر عبر بناء المؤسسات كخيار استراتيجي وحيد، وأشدد على كلمة وحيد، أنا لا أفهم. المؤسسات قد تكون طريق بناء وتحرر، ولكن التحرر لا يمر عبر بوابات المؤسسات وحدها فحسب.
(4)
ونحن صغار علمونا في المدرسة: إذا كنت تريد نصرة فلسطين والخير لها فانتبه لدراستك واحصل على أعلى العلامات. أكاد أجزم أنه لا يوجد فلسطيني إلا وسمع جملة مشابهة ألقاها على مسامعه معلموه في المدرسة. وتشير تقارير كثيرة عن أعداد كبيرة من الفلسطينيين تحمل شهادات لا تعد ولا تحصى في البكالوريوس والماجستير والدكتوراة وفي مجالات شتى، واحصائيات أخرى عن نسبة الأمية المتدنية في فلسطين. كل هذا جميل جداً، ولا شك على أن العلم وتحصيله ونشره إحدى الركائز القوية التي يُبنى عليها أي مجتمع في عالم، والتي عليها ترتكز كذلك قوة الدولة. ولا أنقص أبداً من مثابرة الشعب الفلسطيني نحو العلم، لكن هناك سؤال واحد يستفزني: ما دام لدينا هذا الكم الهائل من المتعلمين وهذا القدر المتدني جدا من الأمية، لماذا حتى الآن لم تتحقق معادلة الأساتذة التي أوجعوا رؤوس أجيال كثيرة بترديدها عليهم؟!
أعرف أن بعض الكلام أعلاه سيفهم خطأ، بكل تأكيد، هذه حالنا في فلسطين، نحترف تأويل وشرح واستنباط الأحكام مما يقال أو يكتب. ولكنها أفكار أو أوهام ألحت في عقلي فأحببتُ طردها ومشاركتكم بذلك، لعل لديكم ما يشابهها، فتساهمون في أعمال الحفريات في عقولنا ومسلماتنا التي توهمنا أنها مُسلّمات. هل هناك أفكار أخرى سائدة في فلسطين ترونها وهماً؟
أوقات كثيرة تضيع في بيع الأوهام .. فمتى نستردها؟