"النيابة" وحرية التعبير "الدستورية"وعدم الاختصاص

157345_345x230

يُثير قرار النيابة العامة احتجازَ الصحافي يوسف الشايب على ذمة التحقيق على خلفية نشره تقريراً صحافياً، وقرار المحكمة الدستورية بعدم الاختصاص فيما يتعلّق بالطعن بعدم دستورية الجمع بين منصبي الرئاسة ورئاسة الوزراء، النقاشَ والمراجعة المجتمعية، ليس فقط لمهام أركان العدالة المنشودة بل في آليات عملها ومدى حرية التعبير في الأراضي الفلسطينية. هذان الحدثان يفتحان، من جديد، عيون الفلسطينيين على أركان العدالة أو بالأحرى القضاء والنيابة العامة. مع التأكيد أن الجميع يُقر باحترام القانون والالتزام بتنفيذ أحكام القضاء الفلسطيني دون مواربة.

(1) النيابة العامة وحرية التعبير والإبداع

في أقل من عام، أقدمت النيابة العامة على وقف بث البرنامج الناقد والساخر "وطن على وتر" في رمضان الماضي، وفي الأسبوع الماضي أمرت باحتجاز الصحافي يوسف الشايب مدة 48 ساعة على ذمة التحقيق على خلفية نشره تقريراً صحافياً في جريدة "الغد" الأردنية، وطلبت تمديده خمسة عشر يوماً من المحكمة.

بصرف النظر عن مدى الاتفاق مع برنامج "وطن على وتر" فيما يتعلق بالمستوى الفني إلا أنه شكّل نقلةً نوعيةً في عملية النقد للوجوه السياسية؛ خاصة أنه يبث في التلفزيون الرسمي. وكذلك بصرف النظر عن "دقة المعلومات" التي وردت في تقرير الصحافي الشايب فإنهما لا يخرجان عن منطق النقد الموجهة للمؤسسة العامة بغية تصويب أوضاع، بما يشبه النقد الذاتي في الحركات الثورية سابقاً.

حصل برنامج "وطن على وتر" على قرار من محكمة العدل العليا بعدم قانونية وقف بثه باعتباره "قراراً إدارياً غير ملزم ولا يحدث أثراً قانونياً". لكن فات الأوان، فقد حرم الجمهور الفلسطيني من متابعة برنامج كوميدي سياسي يعالج القضايا العامة والمجتمعية بطريقة ساخرة من ناحية، وحد قرار النيابة من حرية الإبداع من جهة ثانية. فمن يحاسب النيابة على قرارها، ومن يعوّض ليس فقط أسرة برنامج "وطن على وتر" بل أيضاً الجمهور الفلسطيني؛ فكم ستة ملايين ستدفع النيابة العامة عفواً الخزينة العامة في هذه الحالة.

أما قرار النيابة العامة فيما يتعلّق باحتجاز الشايب على ذمة التحقيق فأعتقد أنه أخطر من وقف البث لأنه يتعلق بالحرية الشخصية للإنسان؛ خاصة أن النيابة العامة تدرك تماماً "وهي العالمة بالقانون" أن الصحافي يستطيع أن يحتفظ بمصادره وعدم الكشف عنها لأسباب مهنية متعلقة بصدقية مهنة الصحافة حتى لا يحرم الصحافي مستقبلاً من الحصول على المعلومات من جهة، ولأن قانون المطبوعات والنشر رقم 9 لسنة 1995 يمنحه هذا الحق إلا إذا قررت المحكمة عكس ذلك. فالمادة الرابعة من القانون المذكور آنفاً تنص على أنه "تشمل حرية الصحافة ما يلي: أ- إطلاع المواطن على الوقائع والأفكار والاتجاهات والمعلومات على المستوى المحلي والعربي والإسلامي والدولي. د- حق المطبوعة الصحافية ووكالة الأنباء والمحرر والصحافي في إبقاء مصادر المعلومات أو الأخبار التي يتم الحصول عليها سرية إلا إذا قررت المحكمة غير ذلك أثناء النظر بالدعاوى الجزائية حماية لأمن الدولة أو لمنع الجريمة أو تحقيقاً للعدالة".

لذلك، لا يفهم إصرار النيابة العامة على احتجاز الشايب على ذمة التحقيق والتمديد له من المحكمة، علماً أن مصدر معلوماته كشف عن نفسه في شريط فيديو عبر الإنترنت. ربما التفسير الوحيد لاحتجاز الصحافي الشايب هو التضييق على حرية الصحافة وقدرتها على نشر معلومات وتحقيقات تتعلق بالشأن العام وكشف حالات الخلل أو شبهات الفساد.

وأعتقد أنه كان من الواجب بدلاً من التحقيق مع الصحافي الشايب عن مصدر معلوماته، أن يتم التحقيق في الوقائع التي أوردها في تقريره لبيان صحتها، واستدعاء جميع الأطراف للتحقيق. فإذا صدقت المعلومات والوثائق التي أوردها مصدر المعلومات والتي اعتمد عليها الصحافي، فإن ذلك يعني مراجعة ليس فقط تعامل النيابة العامة مع حرية الإعلام واحترام حق الصحافي بالاحتفاظ بسرية مصادر معلوماته، بل أيضا ستهز المؤسسة الدبلوماسية وقواعد التعيين وآلياته. ونحن اليوم أحوج ما نكون لفتح تحقيق بما أورده التقرير الصحافي في شبهات فساد واستغلال نفوذ أكثر من التحقيق مع مَنْ نشر هذه المعلومات.

فالنيابة العامة تختص بشكل أساسي بوظيفة استقصاء الجرائم المرتكبة والتحقيق فيها وملاحقة المجرمين قانونياً وإحالتهم للمحاكم من خلال إقامة دعوى الحق العام، ومباشرتها نيابة عن المجتمع بأسره، والإعلام الحر والناقد والمسؤول أحد مصادرها لكشف الجريمة من خلال عملية نشر مكامن الخلل في وظائف السلطات العامة، وهذا التعاون يتم وفق قواعد العمل المحترم بالقانون. فكلاهما الإعلام والنيابة العامة يهدفان إلى حماية المجتمع كل على طريقته وبوسائله المختلفة ضمن إطار القانون.

(2) المحكمة الدستورية وعدم الاختصاص

قررت المحكمة الدستورية العليا يوم الثلاثاء الموافق 27/3/2012 رد الطعن الخاص بعدم دستورية تولي الرئيس محمود عباس منصب رئاسة الوزراء لعدم اختصاص المحكمة بالقضية استناداً لأحكام المادة 24 من قانون المحكمة ذاتها التي بينت اختصاصاتها بـ(1) الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة، و(2) تفسير نصوص القانون الأساسي والقوانين في حال التنازع حول حقوق السلطات الثلاث وواجباتها واختصاصاتها، و(3) الفصل في تنازع الاختصاص بين الجهات القضائية وبين الجهات الإدارية ذات الاختصاص القضائي، و(4) الفصل في النزاع الذي يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين صادر أحدهما من جهة قضائية أو جهة ذات اختصاص قضائي والآخر من جهة أخرى، و(5) البت في الطعن بفقدان رئيس السلطة الوطنية الأهلية القانونية وفقاً لأحكام المادة 37 من القانون الأساسي.

بهذا القرار أراحت المحكمة نفسها من تحمل أعباء سياسية فيما لو قضت بدستورية الاتفاق أو بعدم دستوريته. لكن المحكمة بهذا القرار "عدم الاختصاص" يبدو أنها أغفلت أحكام المادة 103 التي نصت على أن اختصاص المحكمة النظر في "دستورية القوانين واللوائح أو الأنظمة وغيرها" والتي يدخل من ضمنه الاتفاقيات ليس فقط الداخلية بين الفصائل الفلسطينية بل أيضاً الدولية التي تعقدها السلطة الفلسطينية باعتباره نوعاً من أنواع التشريع الذي يجب أن يكون خاضعاً لعلوية الدستور "القانون الأساسي" هذا من جهة. وفي الوقت نفسه أضاعت فرصة "تاريخية" لإثبات المحكمة ذاتها باعتبارها حامية الدستور ومرجعية دستورية للسلطات الثلاث في النظام السياسي الفلسطيني، وأن أعضاءها قضاة "قانونيون" ينتجون أحكاماً سياسيةً على عكس المجلس التشريعي والحكومة "أعضاء سياسيون ينتجون قواعد قانونية".

لكن ما يخيف، ما جاء في قرار المحكمة أن بعض القضاة "أعضاء المحكمة" وصفوا اتفاق الدوحة بأنه عمل من أعمال السيادة التي تخرج عن اختصاص القضاء والمحكمة، أي أن الطعن المقدم ضد عمل من أعمال السيادة لا يخضع للرقابة القضائية. ما يعني مستقبلاً أن الاتفاقيات التي تعقد بين التنظيمات الفلسطينية والمتعلقة بالنظام السياسي الفلسطيني، وإن كانت مخالفة لنصوص القانون الأساسي وروحه، قد تخرج عن اختصاص المحكمة باعتباره من أعمال السيادة كما اعتبرها بعض القضاة، أو خارج اختصاص المحكمة كما اعتبرها أغلب القضاة