ماذا يجري داخل'حماس'؟
ماجد عزام
لم تخلُ حماس يوماً من الخلافات والتباينات الشخصية والسياسية بين قياداتها، ولكن للمرة الأولى في تاريخها تخرج هذه إلى العلن عبر بيانات وتصريحات متضاربة متناقضة، وحتى حادة في الشكل والمضمون، وهو ما بدا لافتاً بالنسبة للحركة الإسلامية التي غالباً ما تميزت بالانضباط التنظيمي الشديد والصارم.
ثمة أسباب عديدة لذلك تتعلق بالتاريخ والجغرافيا والجيوبوليتيك أيضاً، إضافة إلى الثورات وميدان التحرير، المتنقل الذي فرض أجواء من الشفافية والعلنية في مقاربة المسائل القضايا والتحديات التي تواجهها الدول والأحزاب العربية ونقض ذهنية بالروح بالدم للشخص الحزب أو النظام.
لم تشهد حماس ما شهدته وعانته باقي الفصائل من طغيان الخارج على الداخل أو العكس، وظلال توازن حاضراً مع استثناءات زمنية بسيطة، ورغم تشكيل المكتب السياسي وبناء المؤسسات والهيئات االقيادية في الخارج في تسعينات القرن الماضي؛ إلا أن التوازن ظلَّ حاضراً، خاصة مع وجود قيادات من وزن المؤسّس الشيخ أحمد ياسين، والقيادي التاريخي عبد العزيز الرنتيسي ومع اغتيالهما عن سبق إصرار وترصّد ضمن سياق إسرائيلي عام لخط الإبادة السياسية للقيادة الفلسطينية، كما حصل مع اغتيال الشهيد ياسر عرفات واعتقال مروان البرغوثي وآخرين تحضيراً لخطة لفك الارتباط الأحادية وتشجيعاً على الانقسام والاقتتال الفلسطيني من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون.
ومع الظروف الأمنية الصعبة التي عاشها الداخل الحمساوي طغى حضور الخارج بشكل نسبي ولفترة زمنية قصيرة، إلا أن جاءت الانتخابات التشريعية والفوز الساحق والمفاجئ، الذي حققته الحركة الإسلامية معيداً مركز الثقل للداخل، خاصة مع تشكيل حماس للحكومة مرتين الأولى بشكل منفرد في ربيع العام 2006، والثانية بشكل مشترك مع فتح وبقية الفصائل، فيما عرف بحكومة الوحدة الوطنية ربيع العام 2007، غير أن الاقتتال والانقسام صيف العام نفسه، وفرض الحصار على غزة، ومنع قيادات الحركة من السفر أو التنقّل، أتاح المجال لغلبة الخارج على القرار السسياسي والإمساك بالمفاصل الأساسية ،إنَّ في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية أو بجلب وإيصال المساعدات إلى الداخل المحاصر، وهذا الواقع الذي تواصل لسنتين تقريباً أعطى قوة كبيرة من الناحية الشخصية والسياسية، لقيادة الخارج بشكل عام ولرئيس المكتب السياسي خالد مشعل بشكل خاص، الذي قام باستغلال الظرف كما ينبغي عبر تشكيل المؤسسات على مقاسه وإيص المقربين منه إلى عضوية المكتب السياسي والمناصب الحيوية المهمة الأخرى في مكاتب الحركة في الدول العربية والإسلامية. وبدا غريباً في هذا الصدد أن يكون غالبية أعضاء المكتب من الخارج، رغم الوجود التنظيمي الرمزي - بينما مركز الثقل الأساسي للحركة في الداخل وفي غزة تحديداً.
فشل مفاوضات التسوية المنبثقة عن مؤتمر أنابوليس - خريف 2007 - ثم حرب غزة والانتخابات الإسرائلية التي أوصلت الحكومة الأكثر تطرفاً إلى السلطة في الدولة العبرية دفع مصر إلى إعطاء جهد أكبر لملف المصالحة، وإنهاء الانقسام وتخفيف الحصار ضد قطاع غزة، وتسهيل الحرية الحركة والسفر لقادة حماس. وهكذا شهد صيف العام 2009 نقاشات داخلية حادة في دمشق ليس فقط حول المصالحة، وإنما حول الواقع التنظيمي وتزعم القيادي د. محمود الزهار لواء المعارضة لهيمنة واستئثار الخارج بالقرار، مشيراً أن ليس من حق من لم تتغبر قدماه بغبار المعارك وفلسطين أن يقود الحركة قبل أن يخفّف موقفه وعلى طريقته الساخرة رغم أن هذا غير معروف إعلامياً عنه - قائلاً أن لا بأس من تمتع مشعل بالأضواء والتنقّل من عاصمة إلى أخرى لمقابلة الزعماء والقادة شرط أنتظل القرارات المهمة لنا، وبناء عليه تم التوصل إلى حل وسط يتجاوز مسألة وجود ثلاثة أعضاء فقط من غزة في المكتب السياسي مع عدد مماثل من الضفة وأغلبية للخارج لصالح إعطاء دور أكبر للجان المنتخبة في الساحات المختلفة لإدارة شؤونها.
وهكذا نالت لجنة غزة مثلاً الحق في الحسم في الملفات والقضايا المطروحة أمامها - وهي عديدة ومؤثرة ومهمة - من قبيل المعبر إدارة غزة الأمن والتهدئة والمصالحة أيضاً،مع اختراق مهم لمشعل عبر علاقة خاصة مميزة نسجها مع القيادي في الكتائب أحمد الجعبري، وهي علاقة بدأت زمن الحصار على غزة وتطورت لتصل إلى حدّ خلق قناة مباشرة للتواصل بعيداً حتى عن قيادة غزة المنتخبة، وضمن استقلالية للجناح العسكري لا يجرؤأحد على معارضتها أو حتى التطرق لها.
صمدت التسوية الحمساوية الهشة لسنتين تقريباً، وسمحت برفض مشترك للورقة المصرية، علماً أن مزاج الداخل كان حاضراً أكثر في هذا الرفض إلى أن انفجرت الثورات العربية وبدأت سيرورة الربيع العربي التي تبددت دلالاتها الاستراتيجية منذ اللحظة الأولى فعادت القاهرة لممارسة دور البطولة في الملف الفلسطيني، وانتقل مركز الثقل في حماس إلى الداخل وإلى غزة تحديداً، وباتت قيادة الخارج خاصة بعد وصول ميدان التحرير إلى الشام عملياً بلا مأوى ومشتتة بين العواصم، وما من دولة مستعدة لاستضافتها مجتمعة.وكان لافتاً في هذا الصدد أن تلتئم اجتماعات المكتب السياسي الأخيرة منذ أيام فيالقاهرة الأقرب نفسياً وجغرافياً وعاطفياً إلى غزة وقياداتها، علماً أن احتضان هذا- الداخل بشكل عام - لمقر المكتب السياسي وحتى اجتماعاته بات مسألة وقت فقط.
الخلاف العلني الأخير حول المصالحة يعبّر أيضاً عن خلافات سياسية وشخصية، وطوال الوقت كانت التباينات حاضرة في حماس بشأن هذا الملف، مع مرونة ظاهرة للخارج، وتشدد نسبي للداخل الذي يريد مصالحة دون التخلي عن السلطة الفعلية في غزة، خاصة في بعده االأمني - الاقتصادي غير أن الأمر اكتسى طابعاً أكثر حدة نتيجة الاستنتاجات المتناقضة للثورات العربية وميدان التحرير، المتنقل كون قيادة الخارج فهمت أنإنجاز المصالحة كفيل بالحفاظ على مكانتها ونفوذها في ظل التغيّرات الإقليمية العاصفة، بينما وصلت قيادة الداخل والزهار تحديداً إلى استنتاج مناقض التغيّراتتصب في مصلحة حماس سياسياً وتنقل التأثير، وحتى مركز القيادة إلى غزة، ولا داعي للتنازل أو الاستعجال في تنفيذ اتفاق المصالحة مع المراهنة على مصر الجديدة كوسيط أكثر نزاهة تفهماً وقرباً سياسياً ونفسياً من غزة.
التسويات التي تم التوصل إليها في اجتماعات المكتب السياسي الأخيرة في القاهرة هشّة ومرحلية، وسنرى مزيداً من النقاش والتباين، علماً أن المصالحة هي فقط عنوان هذا التباين، بينما مربط الفرس يتمثل بكيفية إعادة بناء المؤسسات وتشكيل المؤسسات التنظيمية بشكل ديموقراطي شفّاف، وبما يعبّر عن موازين القوى داخل الحركة، والنقل التدريجي والهادئ للقيادة إلى غزة، وهذه السيرورة ما زالت في بدايتها وستستمرشهوراً وليس سنوات وفي نهايتها لن نرى لا مشعل - ولا مقربيه من أعضاء المكتب السياسي - في قيادة الحركة التي ستنتقل بشكل تام ونهائي إلى غزة بوصفها الأرض المحررة، حسب تعبير قادة حماس وهو ما شرحه د. الزهار بشكل واضح وصريح في حديثه الأخير لصحيفة فلسطين في 29 شباط 2012 على الوجه التالي: 'عندما تصبح أمامنا جزء من الأرض الفلسطينية متاحاً لنا بالعودة نعود وبدون تردد، كما حدث مع القياديين في حماس فضل الزهار وعماد العلمي والكثير ممن عادوا، قطاع غزة بات بديلاً للقيادات الوطنية والإسلامية وعلى رأسها قيادات حركة حماس، وهنا قدر كبيرمن الحرية لممارسة العمل السياسي، والتحرك بسهولة مطلقة'.