في وداع البابا شنودة
في السابع عشر من آذار الجاري رحل بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر، البابا شنودة بعد مشوار الحياة الطويل، امتد قرابة تسعة عقود من العطاء المثمر للكنيسة القبطية والشعب العربي المصري والقضية الفلسطينية وللامة العربية بكل مكوناتها.
البابا شنودة، الذي قضى اربعين عاما في رئاسة الكنيسة القبطية، منذ العام 1977 حتى وفاته قبل خمسة ايام خلت، لم يكن بابا للمصريين الاقباط، بل كان رمزا من رموز الوطنية المصرية والقومية العربية. لأن البابا شنودة لم يقصر عطائه على البعد الديني على اهميته، بل كان مربيا واستاذا في التاريخ وفي الدفاع عن السلم الاهلي، وفي تعميق الروابط بين ابناء الشعب المصري المسيحيين والمسلمين، وهو صاحب المقولة الشهيرة والعظيمة، التي ستبقى نبراسا لكل المصريين من اتباع الديانات المختلفة: " إن حماية مصر ووحدتها اهم من الاقباط" بالتأكيد لم يقصد البابا الانتقاص من مكانة الاقباط، وهو الراعي الاول للكنيسة القبطية في مصر، انما شاء التأكيد للاقباط وردا على دعاة الارهاب الفكري والسياسي زمن الرئيس الاسبق انور السادات، إن مصر ووحدتها وتطورها ومصالحها العليا، اهم من كل الخلافات والحسابات الدينية والوضعية والتناقضات الاجتماعية.
ولا يضيف المرء جديدا لسجل رجل بقامة البابا شنودة، حين يؤكد ان الرجل تميز بالشجاعة السياسية، فلم يهادن احداً بمن في ذلك الرؤساء, كما فعل زمن الرئيس انور السادات، عندما رفض ان يرافقه الى دولة الاحتلال والعدوان الاسرائيلية عام 1977، واصدر فتوى آنذاك يحرم فيها زيارة الاراضي الفلسطينية في إطار التطبيع. ودفع ثمن موقفه بالحرمان من بث درسه الاسبوعي في التلفزيون المصري، فضلا عن وضعه قيد الاقامة الجبرية في دير بوادي النطرون عام 1981 مع (1531) شخصية من شخصيات مصر العامة، الذين كان مصير معظمهم الاعتقال الى ان جاء الرئيس مبارك وافرج عنهم.
وكان للبابا مواقف مشهودة في دعم القضية الفلسطينية، إن كان من خلال توجيهاته القيمة لمسيحيي مصر والشرق خصوصا وللشعب المصري وابناء الامة العربية عموما. وربطته علاقات وثيقة مع قادة ورموز الشعب العربي الفلسطيني امثال الراحل الشهيد ابو عمار والرئيس ابو مازن والعديد من قادة الشعب الفلسطيني. ونتيجة للتربية الوطنية والقومية الرائدة للبابا شنودة وامثاله من اقباط مصر العظيمة، شارك العشرات والمئات من اقباط مصر في صفوف الثورة، وتبوؤا مواقع مهمة كما محجوب عمر الذي وافاه الاجل قبل ايام ايضا، وغيره من الاسماء المهمة والمبدعة في عالم الفكر والسياسة والثقافة، الذين اسهموا وما زالوا يسهمون في اغناء التجربة الوطنية الفلسطينية, ويعمقون روابط الكفاح المشترك الفلسطيني - المصري.
البابا شنودة، كان عظيما ليس فقط لانه رأس الكنيسة القبطية، بل لانتاجه الفكري والديني، حيث انتج البابا قرابة السبعين كتابا والعشرات من الابحاث والمقالات. ولانه كان وطنيا وقوميا بامتياز، لم يهادن يوما في مواقفه، ولم يخش احداً، وحصانته كانت قناعاته وثقافته ومبدئيته وليس شيئا آخر. امتلك سمة الشجاعة والحكمة وقوة الرأي والموقف والنبل والاصالة..
رحم الله البابا شنودة، بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر، ابن مصر والعروبة البار، وسلاما على روحه الطاهرة والمباركة. وندعو الله ان يخلفه رجل من ذات النسيج، مدافعا عن وحدة الكنسية والشعب العربي المصري، وحاميا للسلم الاهلي المصر، وموطدا للعلاقة بين اتباع الديانات السماوية المختلفة واصحاب المعتقدات والنظريات الوضعية.