الانثروبولوجي والطائرة بدون طيّار

( قراءة في تقنيات الحروب الاستعمارية المعاصرة )

زمن برس- رام الله: "ليست الحرب حالة طارئة إنها حالة أصيلة في الاجتماع البشري"؛ هذه كانت فاتحة محاضرة لأستاذ علم الإنسان والاجتماع في بيرزيت خالد عودة الله عنونها بـ"الانثريولوجي والطائرة بدون طيار".

يوافق عودة الله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو رفضه اعتبار الحرب شكلا عنيفا للسياسة، بل السياسة هي ممارسة للحرب ولكن بأشكال أخرى، على النقيض مما قال به المنظر العسكري المعروف كلاوزفيتز في كتابه " في الحرب" ، وبهذا يصبح التفريق إشكاليا بين المدني والعسكري، وهذا ما يجعلنا نفهم كيف أن "أغلب الاختراعات الحديثة (الانترنت، وأنظمة الحماية، وتقنيات البث التلفزيوني عالي الوضوح) كانت ذات خلفية عسكرية ثم انتقلت إلى المدني، وهي حركة دائمة في الفكر والتكنولوجيا في حالة الحداثة المتأخرة.

ورأى عودة الله أن الحرب تملك منطقها الداخلي (جدلية الدفاع والهجوم) الذي يدفعها للتطور وصولا إلى ما يعرف "بالحرب النقية"؛ وهي الحرب التي ينجح فيها بالهجوم دون تمكن العدو من أي رد، وهذا المنطق يجعلها في تطوّر مستمر حتى دون وجود عدو مقابل.

وتطرق المحاضر في سياق اللقاء الذي تنظمه دائرة علم الاجتماع والإنسان في بيرزيت إلى التحولات التي طرأت على مفهوم الحرب في الحداثة المتأخرة، ومن أبرزها:

حرب ما بعد البطولة: فلم تعد الحرب تعتمد بطولة المقاتل، ولذلك انتشرت في حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل ما سماه احد المحللين العسكريين الإسرائيليين بـ" بكاء الرضيع"؛ وهي حالة البكاء التي لازمت الجندي الإسرائيلي خلال الحرب، فالجنود قدموا من مجتمعات الرفاه والليونة ليجدوا أنفسهم في أتون الحرب، وهذا ما عزز الاتجاه نحو تحويل المهمات القتالية إلى الآلات.

تحول الحرب من فن إلى علم: فقد تحول الجندي من مقاتل من اجل الواجب إلى مهني أو ممتهن للقتال، وهذا برز بشكل سافر في حرب فيتنام حيث طبق فيها أحدث ما توصلت إليه العلوم الإدارية.

الحرب الشبكية: فقد أصبحت كلمة السر في هذه المرحلة مكونة من شقين؛ المعلومة والسرعة؛ فمن يملك المعلومة هو الأكثر قوة والأكثر دقة، ومن يباغت بسرعة يكسب الحرب، وهذا ما نفّذ في حرب العراق حين احتلته وحدات صغيرة مزودة بالمعلومات ومتحلية بالسرعة.

وأفرد المحاضر خالد عودة الله مساحة للحديث عن الجيل الرابع من الحروب، الحروب غير المتماثلة، وقال إنها التي "تحدث بين قوة نظامية، وأخرى غير نظامية مثل العصابات أو فصائل المقاومة، وتكمن قوتها بالنسبة للمدافع في العلاقة مع السكان المحليين، ولكن الفرق أن حروب العصابات كانت تجري في الأرياف، واليوم هي تجري في المدن، وهذه ما تسمى بالانعطافة المدينبة في الحروب.

وأدت هذا الانعطافة إلى تعامل القوى الاستعمارية مع المدن بنظرة مختلفة؛ فأنشئت مراكز أبحاث نتجت عنها بحوث عسكرية محورها المدن أضعاف ما ينتج عن المدن من منظور غير عسكري في الحقول الأخرى كلها، وكل هذا الجهد إنما أريد منه التمكن من مواجهة ما أصبح يعرف بـ"غابات الاسمنت" كناية عن المدن في مقابل الغابات الريفية المعروفة.

وخلال المحاضرة المستطردة في جنبات "الحرب" في الحداثة المتأخرة وأيامنا هذه، ركزّ أستاذ علم الإنسان خالد عودة الله على أن العامل الأهم في الحروب غير المتماثلة هو " إرادة القتال"، وهذه تنهل غالبا من ثقافة المحاربين وعلاقتهم مع السكان، وعلى مقربة من هذا العامل وفي سبيل مجابهته، أنشئت "الحروب الثقافية" التي قرأت دروس أفغانستان والعراق، وأدركت أنه من الضروري الملحّ "معرفة الثقافة"، ويراد منها ثقافة السكان المستهدفين، ومعرفة الثقافة تقوم على تدريب الجنود على التفاهم مع الثقافة في البلد المستعمَر لتتحقق السيطرة وليتمكن الجنود ومن ورائهم قيادتهم من استثمار التناقضات والخصائص الثقافية في الحرب على المجتمع المستعمر ومثال ذلك الأقرب ما حدث في العراق من تشكيل لقوّات الصحوة.

وفي هذا الإطار يشير عودة الله إلى أن الخريطة في يد الجندي لم تعد تحوي الجبال والسهول والوديان فقط؛ بل تحمل تفاصيل عن السكان وعشائرهم وطوائفهم ولغتهم، ما يضمن للجندي معرفة الأرض وما عليها؛ حتى العائلات وصراعاتها وتحالفاتها باتت متضمنة في الخرائط.

وقدّم خالد عودة الله مقاربته عن الطائرات بدون طيّار، ووضعها ضمن سياق استعماري بدأ مع أول عملية قصف جوي نفذها الاستعمار الإيطالي قرب طرابلس وسار في مسار وصل في بداية القرن الحالي إلى طائرات بدون طيّار تمتلك قدرات هجومية بالاضافة الى مهامها التقليدية في الاستطلاع والمراقبة، وشهد هذا المسار تطوّرا مضطردا في قدرات هذه الطائرات، ومن آخر التحديثات سعي الجيش الإسرائيلي لتطوير طائرة بدون طيار تزوّد الطائرات الأخرى بالوقود ما يعني بقاء هذه الطائرات في الجو لمدد طويلة تتجاوز الأشهر.

وضمن المقاربة ذاتها تناول عودة الله بالتحليل ما يسمى "الانثربولوجيا المحاربة" والتي تهدف لتطويع الناس مدنيّا، ما يعني أن مواجهة المجتمع المستعمر تتم بآليتين؛ الأولى هي التروّيض من خلال الأنثروبولوجيا المحاربة والثانية هي التصفيّة بالطائرة بدون طيّار، بمعنى أن هنالك نماذج ( بطل، مقاوم، قائد) يشكل خصما لا تقوى الأنثروبولوجيا المحاربة على مجابهته كونها موجّهة للسكان والمجتمع بشكل عام، لتتولى مهمة القضاء عليه الطائرة بدون طيّار.

وتصفية النموذج إنما تهدف لإحداث الفوضى في المنظومة الاجتماعية ومحولة شل قدراتها الاجتماعية على المقاومة، وتبدو هذه الطائرات ومنظومة التحكم المتصلة بها تقنية جديدة لمفهوم السيادة الاستعمارية، من حيث هي – ولو على سبيل المفارقة – كليّة الحضور وكليّة المعرفة، وهذا ما يجعل العديد من المفاهيم المتدوالة حول العلاقة ما بين المتروبول الاستعماري والمستعمرات من قبل الاستعمار الجديد/ ما بعد الاستعمار بحاجة الى مراجعة.

وقبيل الختام شدد أستاذ علم الاجتماع والإنسان في جامعة بيرزيت على أهمية تحليل نماذج من الحروب غير المتماثلة كانت لها القدرة على إبطال كل هذه المنظومة والانتصار عليها؛ ففي حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل انهارت نظريات عسكرية إسرائيلية بأكملها وطرد ضباط وخبراء من الجيش الاسرائيلي، حين صمد ما يقارب 20-30 مقاتلا من الحزب في عيتا الشعب امام فرقتين كاملتين من الجيش وطائرات دون طيار تحلق في السماء على مدار 33 يوما.

ومرّ عودة الله سريعا على نماذج عدة يمكن من خلالها مجابهة هذه المنظومة الحديثة؛ منها الاختفاء من على شاشات الحواسيب الأمريكية والإسرائيلية المزوّدة بصور الطائرات بدون طيار على مدار الساعة عبر حرب الأنفاق، والعودة إلى أنماط الاتصال التقليدية كالاتصال السلكي وحتى التواصل بالدخان، ما يعني صراحة أن التكنولوجيا لم تحسم الأمر وهي تعاني من الكثير من الإشكالات.

وبالضرورة فرض التصعيد الإسرائيلي على القطاع حضوره على النقاش بعد المحاضرة، وهنا قال عودة الله: " إن كل النجاح الذي يتم الحديث عنه إسرائيليا عبر استخدام القبة الحديدية هو دعاية إسرائيلية يكررها الصحفيون الفلسطينيون والعرب دون أي سبيل للتثبّت من المعلومات فيصبحون جزءا من الدعاية الصهيونية، ويكفي القول إن صواريخ المقاومة الفلسطينية نجحت في اسكات الحياة الاجتماعية للكيان الإسرائيلي في محيط القطاع الممتد لخمسين كيلو مترا، فلم يكن هنالك أي سلوك طبيعي اجتماعي للحياة طوال أيام العدوان، وهنا أخفق الجيش الإسرائيلي في إرجاع الحياة في حنوب فلسطين إلى طبيعتها، ولا يبدو أنه سيتجاوز هذا الإخفاق، وبدلا من ذلك يحاول استهداف الحياة الاجتماعية الطبيعية في القطاع، ليثبت أن هذا هدف واضح للمواجهة بعيدا عن الإصابات والخسائر البشرية".

ط خ. ع ي