عن د. محجوب في لحظة الرحيل

adli_sadikkk

ذات يوم، من العام 1968 ذهب الطبيب النفسي والمناضل اليساري د. قدري حفني، لكي يسلم حقيبة الملابس المدنية التي تخص رفيقه في السجن وفي الحزب ، د. رؤوف نظمي، الى أسرته. يومها تلعثم الأول وخانته الكلمات، فلم تفهم الأسرة من الحقيبة ـ الرسالة، سوى أن إبنها رؤوف، الثوري شديد المراس، قد فقد حياته، وقضى شهيداً على درب الحرية "الحمراء". أحس الرفيق بصعوبة تصحيح الرسالة، فاستغرق وقتاً طويلاً، لكي يقنع الأسرة، بأن ابنها ما زال حيّاً يُرزق، وأن كل ما في الأمر، ليس أكثر من أن رؤوفاً غادر الجزائر التي ذهب اليها لكي يعالج المتدربين على القتال، في نقطة ارتكازهم القوية تلك، وسافر الى حيثما يكون القتال، ليكمل مشواره بين الذين تدربوا وباتوا يقاتلون!

أيامها، كان رؤوف نظمي، المسيحي القبطي، الذي تَسمّى بعدئذٍ بـ "محجوب عمر" قد انفتح على آفاق رحبة وغادر أيام اختناق الروح، بعد أن غادر السجن الذي نُصب للشيوعيين في مصر، على أثر اصطدام المشروع القومي الناصري بطروحات الشيوعيين ومشروعهم. هناك، في المعتقل الصحراوي، امتزجت روح الرجل بهموم وخصوصيات الشيوعيين الفلسطينيين المسجونين معه. ولما غادر محبسه، لم يجد ما يجتذبه من آفاق العمل، إلا التوافر على معالجة "الغلابة" كما كان يسميهم، في مستشفى دمياط الأميري!

لكن الآفاق الجديدة الرحبة، التي انفتحت أمام الطبيب الشاب، كانت بالنسبة له، من "الجماليات" النادرة لهزيمة 67. فهو الذي لطالما ردد مقولة فرنسية مريرة لكنها متفائلة: "إن للآلام جمالها"! لم تستثر الهزيمة في نفس الشاب، إلا الرغبة في معرفة العدو والاشتباك معه، لأن الجهل به وتركه يباغتنا بالضربة تلو الأخرى، هما من بين أخطر أسباب الهزيمة. كتب من الجزائر لصديقه قدري حفني يقول: "أحاول الآن أن أذهب الى الشرق، وأتوقع رداً إيجابياً على ذلك. الغريب أنني كلما قرأت عن الشهداء وأسرهم، أو عن النضال في الشرق، تقفز الدموع الى عيني كأني طفل". وبعد هذا الشجن، يكتب الى صديقة يبلغه أنه قد أصبح في قائمة الثوار على الخطوط الأولى، وأنه مضى الى غايته مدركاً ما سيواجهه من مشكلات، وأنه "ليس مخدوعاً بشىء، إلا أن كرم هؤلاء الثوار جعلهم يسمحون لي بالانضمام الى ركبهم، وقد حذروني بأنفسهم مما سأواجه من صعوبات. سأتعلم وأحاول أن أقدم للثورة أقصى ما أستطيع"!

* * *

ليسمح لي قارئي، بإضافة شىء خاص، في هذه الوقفة أمام رحيل رجل مهيب. فمن دواعي اعتزازي الخاص، أنني كنت قد وصلت قبله بنحو أسبوع واحد، الى القطاع الجنوبي في الأردن، قادماً من حواف منطقة السلط، في آيار (مايو) 1969، وكان التموضع أسفل الجبل الذي تقوم عليه قلعة الكرك، في بقعة يسمونها "سيل الكرك". كان طبيعياً أن يتميز الرجل الطبيب المسيّس، الذي جاءنا باسم محجوب عمر، عن كل الشباب، ومعظمهم أصغر منه سناً. كان معظم أسمائنا الحقيقية مطمورة في خلفيات وعينا. وسرعان ما بدت شخصية الطبيب، غنية بثقافة من كل مجال، وتزداد شخصيته جاذبية، بالتواضع والصلابة والحزم، ولكل شىء عنده شرح وتحليل. وبالطبع، كان النابغون من ذلك الجيل، مستزيدين أصلاً بثقافة ما يُسمى بـ "حرب العصابات" ونسميها "حرب التحرير الشعبية"، واليساريون بالمجمل، كانوا شغوفين بتجربة الطبيب والمناضل الأرجنتيني العالمي أرنستو تشي جيفارا، الذي أعدمته السلطة البوليفية العميلة في تشرين الأول (أكتوبر) 1967. وقد سمعت للمرة الأولى، بقصة جيفارا، من د. محجوب، الذي كان يركز على تفسير الثائر اللاتيني لمغادرته كوبا التي قاتل مع ثورتها بقيادة كاسترو حتى الانتصار. وكأن محجوب عمر في تعليلة لمغادرته مصر الدولة التي كانت في خضم المجابهة آنذاك؛ يصف نفسه في سياق وصفه لجيفارا، لا سيما حين يروي ما قاله الأخير في الرسالة التي بعث بها الى كاسترو، وتتضمن الاستقالة من منصبه كوزير في كوبا": أشعر أني أتممت ما لدي من واجبات تربطني بالثورة الكوبية على أرضها، لهذا أستودعك، وأستودع الرفاق، وأستودع شعبك الذي أصبح شعبي. أتقدم رسميا باستقالتي من قيادة الحزب، ومن منصبي كوزير، ومن رتبة القائد، ومن جنسيتي الكوبية. لم يعد يربطني شيء قانوني بكوبا". ثم "إن الثورة تتجمد، وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي"!

كانت مثل تلك الحكايات، هي التي تشحذ همّة محجوب عمر، لكي يحاكي تجربة ثائر عالمي كجيفارا. طبيب، لكنه محارب. ومحارب لكنه مثقف وكاتب، بل إنه امتلك لغة فلسفية، يرسل بها تعليقاته القصيرة. وكان الأطول نفساً، في الصبر على القراءة. فالصينيون كانوا يرسلون لنا مع السلاح والذخائر، مطبوعات فاخرة لمؤلفات مطولة مطبوعة على ورق شفاف، لماو تسي تونغ. لم يكن أحد يصبر على قراءتها، وأذكر منها كتاب "ست مقالات عسكرية". لكن د. محجوب كان يصبر على قراءة "ماو" بعناية. وبخلاف ذلك، لم تأخذه وقائع الثورة، الى الاستغراق في شأنها وحدة، وإنما اهتم بالصغار أشبالاً وزهرات، في مراكز تموضع وحداتنا في مناطق الكرك والطفيلة. وعندما قرأت سطوراً من رسائله التي بعث بها الى صديقه حفني قدري، الذي قدّم بها لكتاب لمحجوب عمر، جمع فيه بعض مقالاته المنشورة؛ تذكرت العلاقة الحميمة بين ذلك المناضل اليساري، وأخينا الحاج عبد القادر باجس المجالي، الكركي التقليدي المتدين، الذي انضم الى الثورة وأخلص لها. ففي احدى رسائله كشيوعي يكتب لرفيق له، طمأنه بأنه قرر الاندماج التام، مع الناس المناضلين من كل مشرب وثقافة!

كان المناخ العربي، يساعد على أن يصل النص الدرامي الملتزم بالثورة، الى ميكروفون إذاعة "صوت العرب" من القاهرة، بأداء تمثيلي بالصوت يؤديه فنانو المحطة. لذا كتب محجوب عمر، في خضم انشغالاته التي اتسعت بعد أقل من عام ونصف العام من التحاقه؛ مسلسلين عن معارك النضال الفلسطيني والثورة، وبثتهما إذاعة "صوت العرب". وبعد "أيلول الأسود" وتداعياته المؤلمة، برع د. محجوب في مجال القيادة العسكرية التي عُنيب بجمع الأشتات وإعادة رص صفوف المقاتلين للاستمرار على طريق هدفهم الوطني. وبعدها كان حاضراً مع تشكيلات المقاتلين، على جبهة الجولان التي كانت مفتوحة. كان الرجل يتمتع بالنضج القيادي ويحظى بالثقة التي يستحقها، من القيادة الفلسطينية، وبخاصة من "أبو عمار وأبو جهاد وأبو صبري" المعنيين بالقطاع العسكري. وظلت مسيرة حياته النضالية الفلسطينية، ممتدة فصولاً، قبل أن يظهر في خواتيمها د. محجوب عمر، كاتباً ومحللاً للتطورات السياسية في المنطقة. ظل فيما يكتب، متحلياً بمنطق ذلك الثوري العنيد، الذي أمضى حياته في ساح الوغى، حتى أقعده المرض. لقد غادر الدنيا، تاركاً سيرة نضالية استثنائية، يميّزها التنوع والوفاء وسخاء الروح. فلروحه الجميلة السخية المبدعة، ألف سلام!