قراءة سورية لفيلم فلسطيني

بقلم: راشد عيسى
يقدم الفيلم الجديد للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، بعنوان "عمر" وعرض أخيراً في "معهد العالم العربي" في باريس، يقدم في نصفه الأول "عالماً مثالياً" للمشاهد، فرغم أن أحداث الفيلم تجري وراء الجدار العازل في مخيم ضيق، بأزقة نحيلة وجدران شاهقة بلا أي أفق، إلا أن تلك الأمكنة كما يصورها الفيلم في بدايته، حافلة بعالم سعيد مشتهى. أجواء عائلية دافئة. عالم الصداقة المرح. قصة الحب اللذيذة التي تبدو من فرط رومانسيتها مستعارة من زمن آخر، حيث الرسائل الورقية المدسوسة خفية في الأيدي العاشقة. حتى أن المرء قد يشعر بنفسه ممتلئاً بالأمل الذي يجعل الحياة واسعة إلى هذا الحد، رغم المنغصات.
لكنّ يداً ما سرعان ما ستقوّض هذا العالم الدافئ، لن تترك شيئاً في مكانه. يبدأ هذا "العالم المثالي" بالتحطّم حين تتعرض دورية من الجيش الإسرائيلي لعمر، وهذا هو اسم بطل الفيلم، وهو يتسلق جدار الفصل عائداً من موعده الغرامي اليومي. الجنود يصوبون نحوه، يأمرونه بالوقوف على حجر مهتز مرفوع اليدين، فيما هم يتسلون بإذلاله ويهزأون. يغضب عمر وينفجر في وجوههم. ولعل المتفرج يدرك هنا كيف يمكن للعنف، أو ربما للتطرف أن يولد. لكن الجنود سيضربونه بلا هوادة مع أوامر جديدة بالوقوف على قدم واحدة على حجر. هذه توطئة لدخول عمر في التحضير لعمل مسلح ضد جنود الاحتلال، حيث سيلتقي طارق، شقيق حبيبته، وصديقه أمجد، لخوض عملية ضد الجنود. بعد نجاحهم في قتل جندي إسرائيلي سيعثر الإسرائيليون على عمر، وسيذيقونه ألوان التعذيب (يمكن الإشارة هنا إلى تلميح الفيلم باحتمال اعتراف أحدهم تحت التعذيب حين نسمع صيحة آتية من مكان آخر أثناء تصوير عمر في المنفردة). يفرج عن عمر مقابل التعاون معهم، إلا أنه يعود لتحضير كمين آخر مع رفاق السلاح، لكن وجود عميل بينهم سيحوّل الأمر إلى كمين لمصلحة الاحتلال. يفلت طارق قائد المجموعة من الكمين، ويقع عمر في الأسر مجدداً.
مرة أخرى سيفرَج عن عمر مع وعد جديد بالتعاون، ووعد بتسليم طارق، لكن هذه المرة يوضع جهاز تتبّع في ساقه لا يمكن التخلص منه إلا ببتر الساق. عمر يخرج هذه المرة مع شكوك حول حبيبته ألمحت إليها المخابرات الإسرائيلية. لكنها شكوك دَعَمَتْها لاحقاً رؤية عمر لصديقه وشريكه في العملية أمجد وهو يحادث حبيبة عمر من خلف سور المدرسة، وهي تناوله رسالة ما. أمجد سيعترف لصديقه عمر أن البنت حامل منه. يجن جنون عمر، فيأخذ أمجد إلى طارق، ويخبره بذلك، فيجن هو الآخر، فيهاجم أمجد، فيقتل طارق بطلقة على يد أمجد. بات واضحاً أن أمجد هو الجاسوس والمتعاون. ستراً لكل ذلك، وسعياً للخلاص من الإسرائيليين سيتفق الشابان على إيهام المخابرات الإسرائيلية بأنهما قتلا طارق تلبية لخطة الإسرائيليين في ملاحقته. بسعي من عمر سيتزوج أمجد البنت، ويمضي كل في طريق.
لاحقاً، بعد عامين، سيعود الإسرائيليون إلى عمر، في محاولة لمطاردة أحد قادة المقاومة الجدد. حين يعود عمر إلى زيارة صديقه السابق أمجد سيكتشف بالمصادفة أن حبيبته السابقة لم تخنه، ولم تكن حاملاً، وأنه قد تعرض لخديعة استخباراتية. هنا يتصل بالضابط الإسرائيلي يطلب منه تأمين مسدس له، وحين يستجيب الأخير سيكون مصيره القتل على يد عمر بذلك المسدس نفسه.
يبدو المشهد الختامي للبعض غير منسجم تماماً مع هذه الحبكة المحكمة لليأس. إنه فيلم عن اليأس حقاً. يبدو فعل قتل الإسرائيلي كما لو أنه وجد لضرورة الختام وحسب، أو كأنما على طريقة أفلام "الواقعية الاشتراكية" المتفائلة بالضرورة. لكن المشهد الأخير، أي قتل الضابط الإسرائيلي، أقرب إلى إصبع اتهامية ممدودة إلى رأس الاحتلال: هنا المشكلة كلها، هنا جذر كل مصائبنا. الاحتلال الذي يتلاعب بأحلامنا، بولادتنا، ومستقبلنا. يصعب أن يمنع المرء نفسه هنا من التفكير بحال السوريين، هؤلاء الذين قتل النظام منهم وارتكب المجازر واعتقل ودفع الناس تحت التعذيب إلى الاعتراف بجرائم هم منها أبرياء، ثم دفع بأطهر النساء إلى الاعتراف بما يسميه "جهاد النكاح". وقد كان له من الدهاء ما مكّنه من المجيء بـ"داعش" و"النصرة"، وجعل كل ما خوّف الناس منه أمراً واقعاً. فيما الناس، معارضوه، يتلهون بالتقاتل في ما بينهم، والتناحر حول كل شيء، من قبيل المناصب والأولويات، غير مدركين أن الأولى زوال السبب الأساس، أصل كل المعضلات.
أما المشهد الأكثر تأثيراً فهو ذاك الذي يظهر فيه عمر متسلقاً الجدار العازل، وهو على تلك الحال من اليأس والإحباط، التي كان سببها معرفته بخيانة صديقه وحبيبته. يذكّر هذا الإحباط بلحظة مماثلة في فيلم "قلب شجاع"، حيث لم نر ميل غيبسون، بطل ذلك الفيلم منهاراً كما رأيناه بعد خيانة من مقربيه. يحاول عمر تسلق الجدار، فيسقط مرة تلو الأخرى، لكن رجلاً مسناً في الطريق يساعده على الصعود من جديد فيكون له ذلك. لا يغيب الترميز هنا، ففي فيلم يريد أن يتحدث عن ضياع الأجيال، وترْك الشباب المقاومين من دون قيادة ذي خبرة، لن يكون مرور ذلك الرجل العجوز فيه أمراً عابراً. إن ذلك هو أكثر ما يذكر بحال السوريين (نقصد المعارضين بالطبع)، الذين يبدون اليوم من غير قيادة مركزية مسموعة الكلمة. قيادات مترهلة أمام شبان ثائرين على الأرض متروكين لمصيرهم.
"عمر" السوري تائه قليلاً. يشير مرة إلى "داعش"، وأخرى إلى "النصرة"، مرة إلى المجتمع الدولي، ومرة إلى "الجامعة العربية"، تارة إلى الائتلاف، وتارة إلى المجلس الوطني، وأخرى إلى "هيئة التنسيق". متى يعرف الجواب؟