المتغيرات في المنطقة العربية والقضية الفلسطينية

ظهر أثر الثورات والمتغيرات العاصفة في المنطقة على القضية الفلسطينية بوصفه أثراً سلبياً، فأمام تقدم الأوضاع الداخلية للدول العربية التي اجتاحتها الاحتجاجات، تراجعت مكانة القضية الفلسطينية، ليس في المنطقة فحسب، بل وتراجع أيضاً على مستوى الاهتمام الدولي بإعادة إطلاق المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للوصول إلى حل تفاوضي تم انتظاره طويلاً دون الوصول إلى نتيجة.

لا شك بأن الثورات والمتغيرات العربية شغلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، فقد تفاجأت كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية بهذه المتغيرات وظهرت وكأنها تلهث وراء الأحداث التي اتسمت بالسرعة وبالسيولة العالية والمتدفقة، كما أن انتشار الثورات والاحتجاجات في عدة دول عربية في تواريخ متقاربة جعل الجميع يرتبك وطنياً، إقليمياً، دولياً، بحيث بدت التغيرات أسرع من القدرة على التعامل معها ومع تداعياتها المتشعبة.

منذ بداية الثورات في تونس ومصر، انشغلت الدول العربية بهذه المتغيرات، سواء الدول تلك التي أصابتها الاحتجاجات والثورات أو تلك التي لم تصيبها حتى الآن، فقد استنفرت الأحداث الزلزالية الجميع، من أجل معرفية كيفية التعامل مع هذه الأحداث الكاسحة، بالوقوف ضدها، أم بالالتفاف عليها، أم بامتصاصها، أم بالتأثير على قوى فاعلة في المجتمعات التي ضربتها الاحتجاجات... إلخ من السياسات التي ارتجلتها الدول العربية في التعاطي مع المتغير الأكبر في المنطقة.بفعل الثورات والاحتجاجات باتت مسألة شرعية السلطة ومشروعيتها مطروحة في العالم العربي بقوة، لا يستثنى من ذلك البلدان التي لم يصلها اللهيب بعد. والشرعية هي من المسائل الرئيسية التي أطلقت شرارة هذه الثورات والاحتجاجات، بفعل انفلات السلطات الاستبدادية الحاكمة من أي قيد أو ضابط قانوني، فهي فوق البشر وفوق القوانين.

أصبحت البلدان التي نجحت فيها الثورات مشغول بأوضاعها الانتقالية والتي ستجعل هذه الدول تنكفئ على قضاياها الداخلية خلال الفترة الانتقالية التي قد تطول أو تقصر، والتي من الواضح أنها لن تكون قصيرة بفعل التركة الثقيلة التي ورثتها هذه الثورات، وبفعل قوة الثورة المضادة التي تحاول تخريب وإفشال أي تقدم إلى الأمام في البلدان التي أطاحت في حكامها. لكن إذا كانت هذه التغيرات الارتدادية على الواقع الوطني الداخلي قد أثرت سلبياً على القضية الفلسطينية في المدى القصير، فإنها على المدى المتوسط والبعيد ستكون عاملاً ايجابياً في دعم القضية الفلسطينية والفلسطينيين في مطالبهم المشروعة في الدولة والحرية والاستقلال.قبل الثورات العربية، لم يكن الوضع العربي معنياً بالقضية الفلسطينية بالطريقة المطلوبة لدعم الفلسطينيين في نضالهم من أجل تحررهم من الاحتلال الإسرائيلي. إذا أخذنا مصر الدولة الإقليمية وذات الوزن التاريخي على سبيل المثال، فإن أداءها على مستوى القضية الفلسطينية كان بائساً، في أحسن الحالات تقوم بدور الوسيط مع إسرائيل، إذا لم تضغط على الفلسطينيين.

لقد رهن النظام المصري المنصرف كل الدور والوزن المصريين من أجل عملية توريث السلطة إلى الابن، وهو ما جعل السياسة المصرية، سياسة انسحابية من كل القضايا ليس بالنسبة للقضية الفلسطينية فحسب، بل، ولقضايا المنطقة وإفريقيا، وحتى على مستوى القضايا التي تمس مصر ومصالحها مباشرة أيضاً. على مستوى التعامل مع القضية الفلسطينية، اختار النظام المصري السابق دور الوسيط السلبي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبين الفلسطينيين أنفسهم وترك كل القضايا الأخرى للولايات المتحدة الأميركية، أو فعل ما تطلبه الولايات المتحدة بحده الأدنى. لقد حابى النظام المصري إسرائيل بطريقة غريبة حتى في بيعه الغاز المصري بأسعار أقل من أسعارها دون سبب واضح، ويبدو أن ذلك كله ارتبط بإرضاء اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لاعتقاد الرئيس المخلوع أن اللوني الصهيوني قادر على أن يمرر له التوريث في مصر.

ومن أجل التوريث وعلى مدى سنوات حكمه الأخيرة قام النظام المخلوع بتحويل مصر من دولة إقليمية مركزية ذات دور قوي، لها مصالح في كل قضايا المنطقة، إلى دولة انسحابية هامشية ليست لها وزن يذكر في قضايا المنطقة المختلفة والتي شهدت أحداث كبيرة في زمن حكم نظام مبارك.افتقدت أنظمة المنطقة العربية إلى مشروعية شعبية حقيقية، فكل الانتخابات التي كانت تجري في الدول العربية كانت مزيفة، لم يثق أي مواطن عربي أن هناك معنى لمشاركته في انتخابات مزورة سلفاً. والأنظمة تعرف تماماً أنها تفتقد إلى الشرعية الانتخابية، فهي التي زورّت الانتخابات وفرَّغت العملية الانتخابية كما فرَّغت العملية السياسية من مشاركة المواطنين وتعاملت معهم بوصفهم رعايا لدولة سلطانية، رعايا لا يعرفون مصلحتهم، والذي يعرف هذه المصلحة هو الحاكم المستبد المحتجب عن الرعايا في عالم خيالي يصنع فيه مصائرهم البائس بأسوأ الأدوات. يبشر المخاض القائم في العالم العربي ـ رغم آلام الولادة ـ بمشروعة جديدة، لم يعد هناك إمكانية لأنظمة مؤبدة، ولم يعد هناك إمكانية لسوق البشر إلى المشاركة في مسرحية انتخابات مزورة. هناك قطيعة حصلت مع واقع المنطقة السياسي، سواء في الدول التي جرت فيها الثورات ونجحت، أو الدول الأخرى، لقد قال المواطن العربي في العديد من الدول كلمته، لم يعد العيش بالطريقة السابقة ممكناً.تولد في العالم العربي مشروعية جديدة لا تغير العلاقات الداخلية للدول التي جرت فيها هذه المتغيرات فحسب، بل هي أيضاً تغيّر علاقات هذه الدول بقضايا المنطقة وبمكانتها الإقليمية. فالقضية الفلسطينية التي تعامل معها النظام المصري السابق كقضية خارجية، هي في الحقيقة قضية داخلية مصرية، ولا شك بأن النظام الجديد لن يتعامل مع القضية الفلسطينية وتفرعاتها بالطريقة التي تعامل معها النظام السابق. إن المشروعية الجديدة ستغير بالتأكيد الأداء الإقليمي للدول الجديدة، مصر الجديدة ليست مصر مبارك، وبالتأكيد لن تكون مصر عبد الناصر، حتى لا نروج لأوهام جديدة. يكفي أن تبحث الدول العربية عن مصالحها الحقيقية وأن تكون منبثقة عن شرعية شعبية حقيقية حتى يكون أداءها بشأن القضية الفلسطينية أفضل من مأساة السياسات العربية التي شهدناها خلال العقود الثلاثة المنصرمة على الأقل.