الإسلاميون وعملية السقوط إلى أعلى

abu_jaber

إن الخطاب السياسي الإسلامي تاريخيا بما يحمله من صفة التأليه وما ارتبط به من حالات التكفير والتسفيه سواء للنص المضاد أو للمجتمع، جعلت منه خطابا فوقيا حتى على النظام السياسي ، الذي يعتبره هذا الخطاب نظاما دنيويا بقوانين وضعية ، هذه الفوقية للنص ومرفقاته وإفرازاته الفكرية الدخيلة باعتبارها سلطة الله على الأرض لم تكن من الناحية الفعلية سوى سلطة تحتية نظرا لدورها التاريخي المتمترس في بوتقة المعارضة المسحوقة ، اليوم وعندما بدأت سلطة النظام بالتفكك والتلاشي وظهور بنية بديلة جاءت بحناجر الثائرين ، أرفق الإسلاميون حالة من الانقلاب على المرجعيات الفكرية وأصبحنا نشهد ونشاهد بأم العين عمليتان من السقوط :

الأولى وهي عملية السقوط إلى أعلى : وان كانت هذه العملية في جزء منها تعبير عن حالة الارتقاء السياسي إلا أن هذا الارتقاء جاء على حساب المرجعية الفكرية التي تعتبر الصمغ اللاصق لأي كيان سياسي وبالتالي فعلى قدر الصعود الطاغي في هذه العملية إلا انه يمكن أن يحسب في خانة السقوط أيضا

أما الثانية فهي عملية الانحدار في سلطة النص " العليا " باعتبارها سلطة تمثيلية أو ظل الله على الأرض كما يصر عربوها على تسميتها إلى السلطة الدنيوية التي كانت ممقوتة ومرفوضة من قبل الإسلاميين أنفسهم في فترة ما قبل التحول وان كانوا يطمحون إليها

ان التحولات الكبرى في المنطقة وان كنت اختلف على ما بات نمطيا في تسميتها بالربيع العربي ، قادت إلى حالة من التغير والتغيير في البنية الإيديولوجية وما ترتب عليه من تحول في البنية السياسية أصبح يدفع العقل والمنطق على السواء إلى التساؤل عن حالة التهادن غير المعلن والمبرر بين الإسلاميين والإدارات الغربية وعلى رأسها الإدارة الامريكية ، ولعل أول ما يطفو على سطح المنطق تلك المقولة الشهيرة للرئيس المصري الراحل عندما انتقد ازدواجية موقف القذافي من الاتحاد السوفياتي متسائلا " يا ترى هل القذافي كفر وإلا الاتحاد السوفياتي هو اللي أمن " نحن هنا نحاول أن نرد نفس السؤال الى الاسلاميين هل انتم كفرتم بتاريخكم ومواقفكم وما ارتبط بها من نص ، مرجعية ،جهادية ، ثورية دينية ......الخ أم أن الولايات المتحدة هي من آمنت ؟

أيا تكن الإجابة فأنها ستدلل على حالة التحول ، وليس كل تحول هو ايجابي بالضرورة ، إذ بات من الواضح تماما أن المنطقة اصبحت اقرب إلى أن ينفذ عليها وبها مشروع التقسيم ، والحرس القديم الممثل للتيار الوطني لن يقبل هكذا وضع ليس انطلاقا من وطنيته ومرجعيته الفكرية بقدر الارتباط التاريخي والبرغماتي بهذه الوضعية ، ولإحداث التغيير بالشكل الصحيح يقتضي ذلك تغييرا أساسيا للاعبين ، وإجراء عملية تبديل أخيرة في الوقت بدل الضائع لتحقيق مزيدا من الأهداف في سلة العرب المتخمة بالنفط والفقر والجهل والتهميش والانتقائية والازدواجية .

مقاربات نظرية

ان هذا التحول او لنقل الانقلاب على المرجعية الإيديولوجية للأصوليين الإسلاميين ليس الأول من نوعه ، فهو يأتي كحلقة في سلسلة تاريخية تضرب جذورها عميقا في البنيان التاريخي والفكري لحركات الإسلام السياسي وأبرزها حركة الإخوان المسلمين ، فبعد ظهور ما اصطلح على تسميته بالإسلام الإحيائي المتمثل بالتيارات الفكرية المختلفة " الوهابية ، السنوسية ، المهدية ظهر" الإسلاميون الاصطلاحيون " ممثلين بالأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي والكواكبي وغيرهم الذين كانوا يعتقدون ان المعركة مع الغرب " المحتل " ليست معركة عسكرية بقدر ما هي معركة حضارية وان المجتمع بحاجة الى ثورة في العقول ، جاء التحول الثالث على يد حسن البنا الذي يعود له الفضل في بناء الهيكل التنظيمي والسياسي للأصولية الاسلامية وتحديدا حركة الاخوان المسلمين ، وان كان هذا الطرح قريبا – من حيث الشكل - مما كان يطرحه استاذه محمد عبده الا انه حمل في طياته اختلافا كبيرا وصل حد التناقض، فبينما كان الاصلاحيون يتحدثون عن التغيير لمواجهة الاخر المحتل ، كان البنا يتحدث عن التغيير لمواجهة السلطة الوطنية الحاكمة وادخل السيد قطب مبدءا جديدا اكثر حزما واشد صرامة مما طرحه البنا نفسه من خلال كتابه "معالم على الطريق " اذ اختزل السيد قطب – متفقا مع ابي الاعلى المودودي المواجهة مع الاخر الداخلي مستهدفا النظام السياسي على اختلاف هذا النظام عما تحدث عنه البنا ، لأن مصر كانت دولة مستقلة وذات نظام سياسي وطني بحت ، ولم يتوقف السيد قطب عند هذا الحد بل تجاوز النظام الى المجتمع رافعا ومحولا شعارات تغيير المجتمع لمواجهة الاخر الغربي الى شعارات مواجهة المجتمع لتأويل النص والمجتمع لنفسه من خلال طرح فكرة اسلمة المجتمع لمجتمع مسلم اصلا .

اما حول علاقة ذلك كله بما يسمى بالربيع العربي وحالة التقارب المريبة مع الغرب ، فأننا أوردنا هذا السياق التاريخي على عجالة لقياس وتأكيد حالة التحول في بنية ورؤية الأصوليون القائمة على التحول برغماتيا وفق ما تقتضيه المصلحة الحزبية ذات الصفة الربانية .

وهذا التحول السياسي ذو الفكر الدخيل وقف على مفترق التحول الاجتماعي عند اندلاع الثورات العربية لفترة قصيرة لينضم الى عباءة الغرب وينصّب بمباركته قائدا وحارسا لمشروع الشرق الاوسط الكبير ، وهي نفسها الاصولية التي هاجمها المشروع في ديباجته ، اهي مقتضيات السياسة البرغماتية ام عبثيتها ؟

ولهذا التحول في موقف الاصولية اساس نظري ، اورده هنتنغتون في محاولاته العبقرية لاعادة بناء النظام العالمي الجديد من خلال كتابه " صراع الحضارات " والغريب انه لم يطلّ علينا احد من مثقفي الغرب كما عرابوها وغربانها بأن هذا التقارب رسمه هنتنغتون في عام 1993 عندما رسم خريطة لعلاقة الغرب مع الاصولية على المدى البعيد ، اذ " توقع" هنتنغتون ان بداية العقد الاول من الالفية الثالثة ستشهد صراعا اسلامويا غربيا يستمر لمدة عقد كامل وينتهي هذا الصراع في بداية العقد الثاني من الالفية الثالثة "

نحن الان في بداية العقد الثاني من الالفية الثالثة فكما حدث الصراع حسب التخطيطات وقع التهادن بالفعل من خلال " الثورات العربية " وهذا هو الانقلاب الخامس والاخطر بل الاشد فتكا على المنطقة العربية برمتها ، وفيه تنهار اخر القلاع ويسقط الملك وتنتهي اللعبة . ويتكرس هذا الاعتقاد بتوقعات برنارد لويس المعتبر عراب المحافظين الجدد عندما " توقع" سقوط الانظمة العربية كأحجار الدومينو ، متوافقا مع بيريس فيما طرحه حول الشرق الاوسط الجديد وكيف للعرب ان جربوا قيادة مصر للمنطقة مدة نصف عقد متسائلا لماذا لا تحل محلها اسرائيل ؟؟!!!