خطة مصرية لإعمار غزة... وتحديات بالجملة

زمن برس، فلسطين: في مقابل الآمال العريضة التي عبّرت عنها قمة شرم الشيخ للسلام، والتي بشَّر قادتها بانطلاق مرحلة جديدة من إعادة إعمار غزة بدعم عربي ودولي واسع، يبدو الواقع في الميدان أكثر قتامة وتعقيداً. فبينما تتحدث البيانات الرسمية عن خطط ومؤتمرات ومساهمات مرتقبة، تكشف المشاهد اليومية داخل القطاع حجم المأساة التي خلّفتها الحرب. فحسب ما قاله المتحدث الرسمي باسم بلدية غزة لوسائل إعلام رسمية مصرية، المهندس عاصم النبيه، فإن المدينة تواجه دماراً "كبيراً جداً" جراء القصف الإسرائيلي الذي استخدم خلال الأسابيع الماضية مدرعات مفخخة ضد منازل المدنيين والبنية التحتية، ما تسبب في انهيار شبكات الطرق والمياه والصرف الصحي.
وأوضح النبيه أن البلديات في غزة تقف اليوم أمام تحدٍّ غير مسبوق، بعدما دُمِّر أكثر من 85% من الآليات والمعدات الثقيلة والمقرات والمخازن، في وقتٍ تفتقر فيه إلى أبسط الإمكانات اللازمة للاستمرار في تقديم الخدمات الأساسية للسكان. وأشار إلى أن البلدية قدّمت قائمة مفصلة باحتياجاتها العاجلة إلى المؤسسات الدولية والأممية، تتضمن معدات ثقيلة ووقوداً وقطع غيار ومولدات وشبكات مياه جديدة، محذراً من أن عدم توفير هذه الاحتياجات سيجعل البلديات عاجزة عن تلبية الحد الأدنى من احتياجات المواطنين. وعلى الرغم من الإمكانيات المحدودة، بدأت فرق البلدية في فتح الشوارع المُدَمَّرة، وتسهيل وصول الأهالي إلى منازلهم، لكنّ الجهود، كما يقول، "لن تصمد طويلاً ما لم تتدخل الجهات الدولية بصورة عاجلة لتخفيف معاناة سكان غزة".
دول مستعدة للتمويل
ومع انتهاء قمة شرم الشيخ للسلام التي جمعت الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي، والأميركي دونالد ترامب، وعدداً من القادة العرب والدوليين، عاد ملف إعادة إعمار قطاع غزة يفرض نفسه، بعد أن أعلن ترامب أن "دولاً عربية ثرية أكدت التزامها بالمشاركة في إعادة بناء غزة"، في ما وصفه بأنه "مرحلة جديدة من السلام الاقتصادي"، مشيراً إلى أن تلك الدول أبدت استعداداً لتمويل مشروعات البنية التحتية والإسكان والطاقة في القطاع بمجرد استقرار الأوضاع الأمنية.
فوفقاً لتقييمات البنك الدولي وهيئات الأمم المتحدة، بلغت الخسائر الإجمالية في البنية التحتية في غزة أكثر من 18 مليار دولار حتى مطلع عام 2024، بينما ارتفعت الكلفة الكلية المتوقعة لإعادة الإعمار إلى نحو 53 مليار دولار على مدى عشر سنوات، منها 20 ملياراً في السنوات الثلاث الأولى فقط لتغطية احتياجات الكهرباء والمياه والمساكن والخدمات الأساسية. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن إزالة الركام وحدها قد تستغرق ما بين عشر إلى خمس عشرة سنة، بسبب وجود أكثر من 50 مليون طن من الأنقاض والذخائر غير المنفجرة داخل المناطق المأهولة، ما يعني أن أي خطة إعمار ستبقى رهينة بتقدم برامج نزع الألغام والهندسة الميدانية قبل البدء في البناء الفعلي.
ملامح الخطة المصرية
تقترح الخطة المصرية التي طرحتها القاهرة خلال القمة، والتي حظيت بتأييد عربي واسع، مقاربة متدرجة تبدأ بمرحلة طوارئ لإزالة مخلفات الحرب وتأمين المناطق، تليها مرحلة إعادة الخدمات الحيوية، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي، ثم مرحلة إعادة الإعمار العمراني والاقتصادي التي تمتد حتى عام 2030. وتشدد الخطة على أن تتولى مصر، بالتنسيق مع الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية، إدارة عملية الإشراف والتوريد، على أن يجري فتح معبر رفح بشكل مستدام لتسهيل مرور المعدات والمواد الخام، مع إنشاء مراكز حدودية في شمال سيناء، لمعالجة الركام وإنتاج مواد البناء محلياً، بما يخلق فرص عمل جديدة، ويقلل من كلفة النقل. وتطمح القاهرة إلى تحويل عملية الإعمار إلى مشروع تنموي إقليمي، يشمل شركات المقاولات المصرية الكبرى، بحيث تصبح مصر محوراً لوجستياً لإعادة إعمار القطاع.
لكن المسار لا يخلو من تحديات حقيقية. فالتجربة السابقة بعد حرب عام 2014 أثبتت أن التعهدات المالية لا تكفي ما لم تُترجم إلى آليات تنفيذ واضحة. فقد تعهد المانحون آنذاك بتقديم نحو 5.4 مليارات دولار، إلا أن معظم تلك الوعود لم تُنفذ، بسبب التعقيدات السياسية وغياب نظام حوكمة فعّال لإدارة التمويل. ولهذا السبب، تشير مصادر دبلوماسية إلى أن القاهرة تضغط الآن لتأسيس صندوق اتئماني متعدد المانحين تديره الأمم المتحدة والبنك الدولي لضمان الشفافية ومراقبة الصرف، بحيث تُربط الدفعات بمؤشرات إنجاز محددة لكل مرحلة من مراحل الإعمار.
إزالة الذخائر والتأكد من انتهاء الحرب
وتبقى إزالة الذخائر غير المنفجرة واحدة من العقبات الأخطر أمام الانطلاق الفعلي للمشروعات. فبحسب بيانات الأمم المتحدة، فإن مئات الكيلومترات المربعة من الأراضي في غزة تحتاج إلى تطهير قبل أن تصبح صالحة للبناء أو السكن. وتشير تقديرات مكتب الأمم المتحدة لخدمات الأعمال المتعلقة بالألغام (UNMAS) إلى أن العملية تتطلب ميزانية ضخمة، وتجهيزات متخصصة، وفرقاً هندسية عالية الكفاءة، ما يعني أن مرحلة "الهندسة الميدانية" ستكون الأساس الذي تُبنى عليه مراحل الإعمار التالية. وقال المساعد السابق لوزير الخارجية المصري، السفير حسين هريدي، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، إن عملية إعادة إعمار قطاع غزة لن تبدأ فعلياً إلا بعد التأكد من انتهاء الحرب وضمان عدم عودة إسرائيل إلى شن هجمات جديدة على القطاع، مشيراً إلى أن الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية ستشترط تحقيق هذا الضمان الأمني قبل تقديم أي تمويل أو مساهمات.
وأوضح هريدي أن التكلفة التقديرية لعملية الإعمار، وفق تقديرات الأمم المتحدة، تبلغ نحو 53 مليار دولار، وهو رقم ضخم يتطلب التزامات طويلة المدى من المجتمع الدولي، ومشاركة واسعة من الدول العربية والغربية على حد سواء.
وأشار إلى أن إسرائيل ما زالت تفرض رقابة مشددة على المعابر، وتقوم حالياً بتفتيش الشاحنات قبل دخولها إلى قطاع غزة، وهو ما يعكس استمرار القيود الإسرائيلية التي قد تعرقل أي تحرك جدي نحو بدء عملية إعادة الإعمار في المرحلة الحالية.
مؤتمر دولي للتعافي المبكر في غزة
وبدوره قال المساعد السابق لوزير الخارجية المصري وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، السفير رخا أحمد حسن، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد"، إن مؤتمراً دولياً للتعافي المبكر وإعادة إعمار قطاع غزة سيُعقد في القاهرة الشهر المقبل، بمشاركة عربية وإسلامية ودولية واسعة، مشيراً إلى أن المؤتمر سيبحث الاحتياجات المالية واللوجستية وخطة إعادة الإعمار العربية الإسلامية بالتوازي مع خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي طُرحت خلال قمة شرم الشيخ للسلام. وأوضح السفير رخا أن كل دولة مشاركة في المؤتمر ستعلن عن حجم مساهمتها المالية أو المادية في جهود الإعمار، متوقعاً مشاركة عدد من دول الخليج العربية، إلى جانب دول أوروبية وآسيوية، بما في ذلك مؤسسات دولية مانحة تسعى لدعم إعادة إعمار ما دمرته الحرب.
وأضاف أن إسرائيل كان من المفترض أن تتحمل الجزء الأكبر من تكاليف إعادة إعمار ما دمرته من بنية أساسية ومدارس ومستشفيات في قطاع غزة "بلا أي مبرر"، إلا أنها، بحسب تعبيره، تحتمي بالمظلة الأميركية ولن تتحمل أي تكلفة حقيقية. وشدد الدبلوماسي المصري على أن الخطوة الأهم في هذه المرحلة هي انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية من قطاع غزة بالكامل، وضمان وقف إطلاق نار دائم، حتى يمكن بدء عملية إعادة الإعمار على أرضية مستقرة، محذراً من أن إسرائيل قد تسعى إلى عرقلة التنفيذ ما لم يمارس الرئيس ترامب ضغوطاً قوية لإلزامها بتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه في قمة شرم الشيخ.
فرصة لتحريك قطاعات في مصر
على الجانب الاقتصادي، ترى القاهرة في إعادة إعمار غزة فرصة لتحريك قطاعات محلية واسعة. فشركات المقاولات والإنشاء المصرية، التي اكتسبت خبرات كبيرة في مشروعات العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة، ستكون قادرة على تنفيذ مشاريع سكنية ومرافق بنية تحتية بكفاءة عالية. كما يمكن أن يستفيد الاقتصاد المصري من حركة نقل المواد عبر الموانئ والمعابر، ومن تشغيل العمالة الفنية والهندسية. غير أن هذا يتوقف على استقرار الوضع الأمني في سيناء، وعلى ضمان تدفق آمن للبضائع عبر الحدود.
ومن الناحية السياسية، يُجمع الخبراء على أن أي خطة إعمار، مهما كانت طموحة، ستظل رهينة التفاهمات الأمنية بين الأطراف الإسرائيلية والفلسطينية، وأن نجاحها يتطلب تثبيت وقف إطلاق النار على المدى الطويل، وتوفير ضمانات دولية تمنع انهياره. كما أن القاهرة تسعى إلى تأمين غطاء سياسي من مجلس الأمن يمنح الخطة شرعية دولية، ويجنبها التدخلات الإسرائيلية المفرطة، وهو ما شدد عليه الرئيس السيسي خلال لقاءاته مع القادة المشاركين في القمة.