في القدس لا يملك أهلها إلا منازلهم
لسنوات عدة اضطر ناصر داود، (40 عاما) الى دفع 900 دولار شهريا لاستئجار منزل لعائلته في حي بيت حنينا في القدس الشرقية المحتلة، قبل أن يقرر الانتقال إلى منزل آخر في حي كفر عقب، شمال المدينة، الذي يعتبر رسميا جزءا من حدود ما يسمى ببلدية القدس الغربية، غير أنه يقع خارج الجدار الذي أقامته الحكومة الإسرائيلية لفصل المدينة عن الضفة الغربية. ويكتظ حي كفر عقب بعشرات آلاف المقدسيين الذين اضطرتهم ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة في القدس ونقص المساكن في المدينة للانتقال إلى هذا الحي، ولكنهم في الوقت ذاته يرغبون بالاحتفاظ بهوياتهم الشخصية «الزرقاء»، وهي هوية إسرائيلية يحملها المقدسيون باعتبارهم «مقيمين» في المدينة وليسوا مواطنين! وفي شقة في بناية من ثماني طبقات قال داود: ما عاد في إمكاني دفع تكاليف العيش في بيت حنينا، إذ أن الإيجار الشهري يستنزف الجزء الأكبر من راتبي، فنعيش على راتب زوجتي، ولذلك قررنا الانتقال إلى هنا حيث اشترينا شقة ثمنها 90 ألف دولار ندفع ثمنها على أقساط، القسط الواحد منها أقل من الإيجار الذي كنت أدفعه في بيت حنينا.
يقول مقاولون في مدينة القدس إن ثمن الشقة في أحياء مثل بيت حنينا وشعفاط يتراوح ما بين 250-400 ألف دولار، ولكن هذا السعر يرتفع بشكل أكبر إذا كانت الشقة في أحياء مثل الشيخ جراح ووادي الجوز، وهي أقرب إلى بلدة القدس القديمة ومركز المدينة. وخلافا للسائد في المناطق المقدسية التي يعزلها الجدار عن الضفة الغربية، والتي يكاد يكون البناء فيها نادرا بسبب شح الأراضي وزيادة تكاليف رخص البناء في حال وجودها أصلا (40 ألف دولار لرخصة الشقة)، فإن الأبنية الشاهقة ترتفع بسرعة في كفر عقب الذي تعتبر ميزته الوحيدة هي أن بلدية القدس الغربية تستوفي ضريبة الممتلكات (الأرنونا) على الشقق فيه برغم أنها غير مرخصة، حيث تستخدم هذه الضريبة لإثبات الإقامة في القدس.
الترحيل الصامت
المشهد ذاته يتكرر في مخيم شعفاط للاجئين، وحي رأس خميس القريب منه، واللذين بات الجدار وحاجز عسكري إسرائيلي يفصلاهما عن مركز مدينة القدس «الشرقية». ويطلق زياد الحموري، مدير مركز القدس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، على هذه العملية اسم «الترحيل الصامت»، وقال: التقديرات تشير إلى أن نحو 120 ألف شخص من أصل 290 ألف مقدسي باتوا يعيشون في المناطق خلف الجدار في محيط القدس. وأضاف: هم معزولون فعليا عن المدينة وبإمكان السلطات الإسرائيلية التخلص منهم في أي وقت تشاء! وعلى الرغم من ادعاءات إسرائيلية متكررة بأن لا مخططات تعد سريا للتخلص من هؤلاء المقدسيين وابعادهم نهائيا عن القدس، فإن رئيس بلدية القدس الغربية نير بركات جاهر مؤخرا بمخطط تحويل هذه المناطق إلى مسؤولية ما يسمى «الإدارة المدنية» الإسرائيلية، التي بدورها تسيطر على مجمل مناحي الحياة في الضفة الغربية.
يقول مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم): في ضوء الصعوبات في العثور على سكن في شرقي القدس، وعلى مدار السنين، انتقل عشرات آلاف المواطنين للسكن في الضواحي، وما زال هؤلاء يحتفظون ببطاقات الهوية الإسرائيلية ويحصلون على الكثير من الخدمات داخل المدينة.
20 ألف منزل مهدد بالهدم
يرى الحموري أن ما يجري الآن هو نتاج لسياسات إسرائيلية بدأت في العام 1967 وتراكمت على مر السنين، وقال: مع احتلالها للقدس الشرقية عام 1967، فإن إسرائيل صادرت أو صنفت كمناطق خضراء يمنع البناء عليها نحو 86% من مساحة المدينة، ولم تبق للسكان الأصليين سوى المنازل التي يقيمون بها مع بعض الاستثناءات هنا وهناك، ما خلق أزمة سكانية حادة زاد من تفاقمها سياسات الحد من السكان الفلسطينيين عبر الامتناع عن إصدار رخص البناء وهدم المنازل التي يجرؤ السكان على إقامتها بدون تراخيص. ويضيف: البعض من السكان فضلوا إقامة مساكن لهم حتى لو بدون تراخيص. وعليه، لدينا الآن قرابة 20 ألف منزل مهددة بالهدم لهذا السبب، أما البعض الآخر فقد فضل الانتقال للضواحي.
مدينة القدس.
أما مركز «بتسيلم» فيقول: في العام 1967 قامت إسرائيل بضم 70.500 دونم من القدس الشرقية والضفة الغربية إلى منطقة نفوذ بلدية القدس، 24.500 دونم، أي أكثر من ثلث المساحة، تمت مصادرتها منذ ذلك الوقت على يد دولة إسرائيل. معظم الأراضي المصادرة كانت بملكية شخصية لمواطنين عرب. وحتى نهاية العام 2001، تم بناء 46.978 وحدة سكنية للسكان اليهود فوق الأراضي المصادرة من شرقي القدس، ولم تخصص حتى وحدة سكنية واحدة من أجل السكان الفلسطينيين، والذين يشكلون حوالي 33% من سكان المدينة. وأضاف: في المقابل، قامت إسرائيل بخنق البناء في الأحياء الفلسطينية وقيدت قدر الإمكان بناء بيوت جديدة فيها، وقد تمت مصادرة الكثير من الأراضي حول الأحياء والقرى الفلسطينية من أجل بناء المستوطنات اليهودية، فيما بقي أصحاب الأراضي بدون أرض للبناء. هذا دفع الكثير من الفلسطينيين، في ظل غياب البدائل، إلى بناء بيوتهم دون الحصول على ترخيص من السلطات. إن تطبيق قوانين البناء على السكان الفلسطينيين أكثر صرامة مقارنة مع تطبيق القانون على السكان اليهود، على الرغم من أن عدد مخالفات البناء في غربي المدينة أعلى بكثير.
في هذا الصدد، تشير معطيات «بتسيلم» إلى أن إسرائيل هدمت 495 منزلا في القدس الشرقية في الفترة ما بين 2004 وحتى نهاية العام الماضي، من بينها 51 منزلا هدمها أصحابها بأيديهم لتفادي الغرامات، ما أدى إلى ترحيل 1943 مقدسيا من بينهم 1060 قاصرا.
سحب بطاقات الهوية
يرى بعض الخبراء أن سياسة «الترحيل الصامت» إلى الضواحي والمدن المجاورة للقدس، مثل رام الله وبيت لحم وبيت جالا، تحقق لإسرائيل ما تهدف إليه في دفع الميزان الديمغرافي في المدينة كليا لمصلحتها. ويقول الحموري: نسبة المقدسيين من عدد السكان في القدس بشطريها الشرقي والغربي وصلت إلى 35%، ولكن إسرائيل تريد خفض هذه النسبة إلى أقل من 12% وذلك بإجبار أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين على ترك المدينة إلى الضواحي والمدن القريبة، وأيضا من خلال زيادة عدد المستوطنين الإسرائيليين في المدينة. وثمة من يرى أن إسرائيل باتت تحقق بصمت ما كانت تحاول تحقيقه في العام 1996 عندما استحدثت وزارة الداخلية الإسرائيلية ما أسمته آنذاك «مركز الحياة»، وبموجبه شطبت إقامات الفلسطينيين المقدسيين الذين ثبتت إقامتهم خارج حدود ما يسمى ببلدية القدس الغربية لمدة 7 سنوات.
الرد الفلسطيني على هذه السياسة جاء عكسيا، إذ عاد إلى المدينة الآلاف من المقدسيين الذين خافوا فقدان إقاماتهم في المدينة، ومع ذلك فإن الثمن كان باهظا. فاستنادا إلى المعطيات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية الإسرائيلية، فقد 1067 مقدسيا إقاماتهم في القدس في العام 1997 وحده، وعادت الأرقام لترتفع من جديد في العام 2008، حيث تم شطب إقامات 4577 فلسطينيا.
تشير المعطيات الرسمية الإسرائيلية إلى أن الحكومة الإسرائيلية شطبت إقامات 14268 مقدسيا في الفترة ما بين العام 1967 وحتى نهاية العام 2012 من دون توفر معطيات حتى الآن عن عدد المقدسيين الذين فقدوا إقاماتهم في المدينة في العام 2013. وتشير وزارة الداخلية الإسرائيلية إلى أن 10376 مقدسيا فقدوا إقاماتهم في القدس في الفترة ما بين 1997 وحتى 2011 بسبب رحيلهم إلى خارج فلسطين، في حين أن 597 مقدسيا فقدوا إقاماتهم في المدينة خلال الفترة ذاتها بسبب انتقالهم للعيش في الضفة الغربية.
وفي حين يسمح للإسرائيلي بازدواج الجنسية، فإن حصول المقدسي، الذي تعتبره إسرائيل رسميا «مواطنا أردنيا» كما يظهر في وثائق السفر (لاسيه باسيه) التي تصدرها وزارة الداخلية الإسرائيلية للمقدسيين، على جنسية، يعتبر سببا كافيا لشطب إقامته في المدينة.
الضغط الاقتصادي وسيلة للتهجير
لا تقف سياسات إسرائيل بالتضييق على الفلسطينيين عند هذا الحد، إذ تستخدم إسرائيل السلاح الاقتصادي للضغط على المقدسين لإجبارهم على الرحيل من المدينة. وقال الحموري: الضغط الاقتصادي هو واحد من أهم السياسات التي تستخدمها إسرائيل لترحيل المقدسيين عن مدينتهم، وذلك إما من خلال فرض الضرائب الباهظة، وبخاصة على التجار، ما يدفعهم إلى إغلاق مصالحهم التجارية في المدينة والانتقال إلى المدن المجاورة مثل رام الله وبيت لحم، أو من خلال زيادة عدد الحالات التي تعيش في حالة فقر، والتي تصل بحسب المعطيات الرسمية الإسرائيلية إلى 80% من الفلسطينيين في القدس. وأضاف: القطاع التجاري في المدينة يشتكي من الضرائب في وقت تعاني فيه المدينة من الركود الاقتصادي، كما أن تراكم الضرائب يهدد بمصادرة أملاكهم في حال العجز عن السداد، مع الإشارة إلى أن أكثر من 200 محل تجاري في المدينة أغلقت أبوابها في السنوات الماضية بسبب الضرائب والكساد الاقتصادي.
بالنسبة الى الكثير من المقدسيين، فإن الحياة في المدينة باتت كابوساً بسبب السياسات الإسرائيلية، فمن ناحية فإنهم يضطرون لدفع أموال باهظة لضريبة الأملاك (الأرنونا) وبالمقابل لا يحصلون على خدمات من بلدية القدس الغربية، ويجدون أنفسهم مهددين بمصادرة ممتلكاتهم أو السجن في حال عدم دفع هذه الضريبة. وأيا كان من يثبت عدم وجود ضريبة أملاك باسمه فإنه يجد نفسه مهددا من قبل «مؤسسة التأمين الوطني» الإسرائيلية، التي تستند إلى هذه الضريبة ومعها فواتير الكهرباء والمياه والإيجار وشهادات المدارس كشهادة إقامة في المدينة يتسبب عدم توفرها بتحويل اسم الشخص إلى وزارة الداخلية الإسرائيلية التي تبدأ بإجراءات الترحيل من المدينة.
الراحة المالية التي يشعر بها ناصر داود بعد انتقاله إلى كفر عقب لم تواكبها راحة نفسية، إذ يخشى على الدوام إمكانية فصل هذه المنطقة كليا عن القدس. ويضطر داود يوميا للانتقال عبر حاجز قلنديا العسكري الإسرائيلي (شمال القدس) للوصول إلى مكان عمله، ولنقل أطفاله إلى مدارسهم في القدس الشرقية، ويقول: أريد الحفاظ على إقامتي في القدس بكل طريقة ممكنة، ولكن السؤال الذي أفكر فيه كل دقيقة هو: إلى متى سأتمكن من ذلك؟!
* صحافي فلسطيني مقيم في القدس.