المتدينون في إسرائيل والفصل بين الجنسين

شهدت إسرائيل في الأشهر الأخيرة تصاعداً مطرداً في المواجهات بين المجموعات المتدينة المتشددة في إسرائيل والمعروفة باسم "الحريديم" وبين الشرطة وشرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي على خلفية فرض المتدينين بالقوة الفصل بين النساء والرجال في وسائل النقل العام، وتعرضهم بالشتائم والاهانات لكل امرأة لم تقبل باستخدام المقاعد الخلفية المخصصة للنساء. وفي الواقع فإن قضية الفصل بين النساء والرجال في الحياة العامة في إسرائيل هي فصل آخر من الحرب الدائرة بين المتدينين والعلمانيين في إسرائيل، بين جماعات أصولية تريد تحويل إسرائيل دولة دينية بامتياز، وأخرى تدافع عن هويتها الصهيونية العلمانية وتتشبث بفصل الدين عن الدولة.

يعود تاريخ النزاع بين العلمانيين والمتدينين في إسرائيل الى يوم الاعلان عن الدولة الإسرائيلية عام 1949. فبينما أرادها المؤسسون والرواد الأوائل دولة صهيونية علمانية اشتراكية تقوم على الفصل بين الدين والدولة، طالب المتدينون بدولة تحترم مبادىء الشريعة اليهودية [الهالاخا] وتتقيد بطقوس الديانة اليهودية، بدءاً من احترام قدسية يوم السبت والطعام الحلال (الكاشير) وتحديد من "هو اليهودي"[اليهودي هو كل شخص من أم يهودية، ولكن هناك حالات تتطلب قانونا يطالب الحاخامون بأن يكونوا هم الذين يحددونه]. وقد حاول ديفيد بن غوريون تنظيم العلاقة بين الدولة وبين المتدينين عبر اتفاق حمل إسم "الوضع الراهن" حقق المطالب التي رفعها المتدينون مثل الالتزام بقدسية يوم السبت و الأكل الحلال في المؤسسات الرسمية و في الأحوال الشخصية واستقلال التعليم الديني، وأعطاهم امتيازات كثيرة.

خلال السنوات الأولى لقيام الدولة ظل تأثير المتدينين محصوراً وكانت الهيمنة للعلمانيين. لكن مع مرور الزمن ومع تراجع المعسكر العمالي في إسرائيل وصعود اليمين القومي الى الحكم في 1977 بدأ نفوذ المعسكر الديني يتنامى في الحياة السياسية في إسرائيل والحياة العامة على حد سواء. وبات واضحاً ان مجيء سلطة ذات توجهات يمينية قومية معادية لليسار اجمالاً وذات نزعات لا ديمقراطية تعزز الى حد كبير التطرف الديني للمجموعات اليهودية الأصولية في المجتمع الإسرائيلي. من هنا فان سبب تصاعد التوتر الأخير بين "الحريديم" وغيرهم من الإسرائيليين، ومحاولاتهم فرض نمط حياتهم على الناس لا سيما على النساء، هو نتيجة لسياسات اليمين القومي المتطرف الذي يحكم إسرائيل حالياً والذي يحاول احياء الروح الصهيونية من جديد، ضمن اطار ما بات يسمى اليوم تيار النيو- صهيوني الذي يشدد على الثقافة اليهودية، ويدعو الى عدم الانجرار وراء أوهام الثقافة الغربية الفردانية.

من هم "الحريديم"؟

المقصود بكلمة حريدي هو "التقي" الذي يخاف من ربه، وتطلق هذه التسمية على المجموعات اليهودية الأصولية المتشددة التي تريد تطبيق تعاليم الشريعة اليهودية بحذافيرها والعيش وفق الطريقة التي كان يعيش فيها الحريديم في القرن التاسع. وتنقسم طائفة الحريديم مجموعتين أساسيتين: الطوائف الحسيدية والطوائف الليتوانية، ولكل طائفة زعيمها الروحي ومجلسها الحاخامي ومؤسساتها التعليمية وشبكات خدماتها الاجتماعية، وممثلون لها في الكنيست. إذ على رغم ان الحريديم ترددوا بداية في القبول بقيام الدولة اليهودية لأنها لا تتماشى مع ما جاء في التوراة، لكنهم في النهاية وافقوا على المشاركة في الحياة السياسية، ولهم اليوم ممثلون عنهم في الكنيست الإسرائيلية، وغالباً ما تلعب الأحزاب الحريدية مثل "يهودوت هاتوراه" دوراً وازناً في التصويت على الثقة بالحكومة، وتحاول من خلال مناصبها الحكومية تأمين مصالح جماعاتها عبر المساعدات الحكومية المخصصة للحريديم.

تعتبر الحسيدية حركة صوفية في أساسها نشأت في القرن الثامن عشر في أوروبا الشرقية، وتقول إن هدف الدين هو الالتصاق بالله من خلال تركيز الفكر كله على الخالق، وبذل الجهود للتعرف الى مزاياه. كما يعتقد اتباع هذه الطائفة أن باستطاعة كل انسان أن يصبح مقرباً من الله وان يتماثل معه ويتعرف على أسراره. ولا يخفى ما في تعاليم الحريديم الحسيدية من خروج عن المبادىء التقليدية للديانة اليهودية. من هنا ظهور اكثر من فئة معارضة لهم أطلق عليها إسم الليتوانيين.

ويمتاز الحريديم من الرجال عن غيرهم بالثياب السود الطويلة والقبعات السود، وبترك شعورهم على الطريقة التقليدية اليهودية، ويقضون وقتهم في الصلاة وتعلم التوراة، ولا يمارسون وظائف معينة وليست لديهم مهنة خاصة بهم، وهم غالباً ما يعتمدون في حياتهم على المخصصات التي تدفعها الدولة لهم. أما سبب قبول إسرائيل اليوم بأن يعيش المتدينون المتشددون عالة على المجتمع الإسرائيلي وألا يخدموا في الجيش الإسرائيلي، فيعود في الأساس الى عملية الابادة التي تعرض لها اليهود في أوروبا والتي كادت أن تقضي على الديانة اليهودية. لذا تجد الدولة العبرية من واجبها حماية الديانة اليهودية والعمل على احيائها من خلال اعطاء الفرصة لليهود المتدينين بالتفرغ للعبادة والصلاة والتعرف على الديانة خوفاَ من تعرضها مرة أخرى لخطر الاندثار.

يعيش الحريديم داخل أحياء خاصة بهم أشبه بالغيتو، ويشبّه البعض هذه الأحياء المنغلقة على نفسها وعلى تقاليدها وعاداتها بـ"الدولة داخل الدولة". ومن يدخل الأحياء الخاصة التي يعيش فيها هؤلاء مثل بني براك أو مئة شعاريم في القدس، يشعر بأن الزمن قد توقف هناك في القرن التاسع عشر. فأنماط العيش السائدة لا تمت بصلة الى الطريقة العصرية للعيش في المدن والبلدات الإسرائيلية الأخرى.

وتمتاز العائلات الحريدية بأنها كثيرة الأطفال إذ يعارض الحريديم استخدام وسائل تحديد النسل، أما النساء الحريديات فيلتزمن قواعد صارمة في الحياة العامة إذ يحظر عليهن إظهار شعورهن وغالباً ما يستعضن عن غطاء الرأس بباروكة من الشعر المستعار تغطي رؤوسهن أو بطاقية من الصوف، اضافة الى ضرورة ارتدائهن ثياباً تغطي "عورات" الجسد. ويمارس المجتمع الحريدي فصلاً صارماً بين المرأة والرجل. ففي بلدة بيت شيمش مثلاً هناك لافتات تطلب من النساء استخدام الأرصفة الخاصة بهن، وتطالبهن بعدم التوقف امام الكنس ودور العبادة. ولا يقتصر الفصل بين الجنسين في الأماكن العامة مثل العيادات والمراكز الاجتماعية وانما يمتد الى المدارس وحتى الى الحياة الشخصية. ففي الزيارات العائلية تجلس النساء في غرفة منفصلة عن الرجال، وفي دعوات الطعام يأكل الرجال في البداية وتنتظر النسوة ان ينتهي الرجال من الأكل كي يأكلن من بعدهم. وفي كثير من الحالات النسوة هن اللواتي يعملن في حين ينصرف الرجال الى الدراسة الدينية في اليشيفوت (المدارس الدينية).

الى ذلك، يلاحظ في أحياء المتدينين تمزيق الاعلانات وتخريب مواقف الباصات التي تحمل صوراً لنساء. وتحرم الاذاعة الخاصة باليهود الحريديم سماع أصوات النساء.

المتدينون في الجيش الإسرائيلي يقاطعون المناسبات التي فيها غناء للنساء

كما سبق وأشرنا شهد نفوذ اليهود الحريديم نمواً واضحاً منذ وصول بنيامين نتنياهو الى الحكم قبل ثلاثة اعوام، وبعد إحكام اليمين القومي قبضته على الحياة السياسية والعامة. وبدا أن ثمة توجهاً واضحاً من جانب المتدينين لفرض أسلوبهم ونمط حياتهم على غيرهم من الجماعات.

فقبل بروز أزمة الفصل بين النساء والرجال في الباصات، برزت مشكلة اليهود المتدينين، وهم الجناح الأكثر اعتدالاً في الحريديم، والأكثر انخراطاً في الحياة العامة في إسرائيل، إذ يقومون بخدمتهم في الجيش الإسرائيلي، وذلك عندما رفض هؤلاء المشاركة في الاحتفالات في الجيش والتي تتضمن غناء للنساء من المجندات. وكان أحد الحاخامين قد أصدر فتوى تسمح للجنود المتدينين بمغادرة المناسبات التي تتضمن غناء للمجندات الأمر الذي خلق أزمة في قيادة الجيش الإسرائيلي التي استنكرت هذه التصرفات الشاذة واعتبرتها مهينة في حق المجندات في الجيش الإسرائيلي الذي يطبق المساواة الكاملة بين الذكور والإناث.

وأظهرت أزمة الجيش النفوذ الذي يتمتع به المتدينون الصهاينة داخله، لا سيما بعدما اتضح أن نسبة الذين يلتحقون منهم بالخدمة العسكرية قد ازدادت بصورة واضحة في السنوات الأخيرة، وأن عدداً كبيراً منهم يفضل الالتحاق بالفرق القتالية التي تتطلب مهارة خاصة، وان بعضهم خضع قبل دخوله الى الجيش لإعداد مسبق في مدارس اعداد عسكرية يديرها متدينون. وبدا واضحاً تردد القيادة العليا للجيش في تعاملها مع هذه المسألة وعدم رغبتها في اثارة غضب التيار القومي للمتدينين الذي يحاول دمج الشباب المتدين داخل المؤسسة العسكرية، وهو أمر يصب في صلب أهداف الجيش الذي يعتبر الخدمة العسكرية الإلزامية أهم تجربة في توطيد الشعور بالانتماء والوحدة الوطنية.

وقد أدى هذا الأمر الى حملة من الانتقادات من جانب الأحزاب العلمانية والجمعيات النسائية ضد ما سموه "حردنة الجيش" وتحويله جيشاً "للرجال فقط".

كيف انفجرت المشكلة؟

في 15 كانون الأول الماضي صعدت تانيا روزنبليت (28 سنة) إلى الباص المتجه من أشدود الى القدس، والذي صودف أنه يستخدم بصورة خاصة من جانب اليهود الحريديم ، وجلست في مقعد وراء السائق. فطلب منها أحد الحريديم الانتقال الى المقاعد الخلفية المخصصة للنساء، الأمر الذي رفضته بشدة، مما أدى الى تعرضها لسلسلة من الاهانات والشتائم من جانب مجموعة كبيرة من الحريديم الذين أوقفوا الباص وهددوها وطالبوها بالنزول منه إذا لم تتراجع الى المقاعد الخلفية المخصصة للنساء. لكنها رغم هذا كله لم تقبل الانصياع والخضوع، وطلبت حضور الشرطة التي حاولت بدورها اقناعها بالرجوع الى الوراء أو النزول من الباص لكنها رفضت، ولجأت الى الإعلام مما فجر القضية على نطاق واسع.

شكلت هذه الحادثة الشرارة التي أشعلت نار الاحتجاجات ضد الإكراه الديني الذي يمارسه الحريديم على غيرهم وخصوصاً على النساء. وتحولت روزنبليت الى روزا باركس ثانية، هذه المرأة السوداء التي رفضت سنة 1955 التنازل عن مقعدها في الباص لأنه لم يكن مخصصاً للسود في ذروة الفصل العنصري في أميركا. وفجرت هذه الحادثة الاضراب الشهير الذي أعلنه السود وقاطعوا فيه المواصلات العامة حتى يصار الى الغاء قوانين الفصل بين السود والبيض.

بعد هذه الحادثة بأسبوعين تعرضت نعمه مرغوليس وهي فتاة في الثامنة من عمرها للشتائم والبصق من جانب حريدي رأى ان ثيابها غير لائقة، مما أصاب الفتاة بالذعر وأدى الى موجة عارمة من الاحتجاجات والتظاهرات في بلدة بيت شيمش عقر دار الحريديم، وما لبث أن رد هؤلاء على هذه التظاهرة بأخرى مماثلة جمعت أعداداً كبيرة من الحريديم وكادت أن تتحول حوادث شغب بعد اقدام المتظاهرين من المتدينين على الاعتداء على رجال الشرطة وأطقم الوسائل الاعلامية الإسرائيلية.

وبدا واضحاً ان المجتمع الحريدي في إسرائيل بصدد الانتقال من مرحلة التقوقع على الذات الى مرحلة الانفلاش والتوسع، وممارسة الضغط على الآخرين للإلتزام بمواقفه وأفكاره، وانه بات يشكل سلطة مستقلة عن سلطة القانون والدولة. وهذا ما دفع برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الى الطلب من المستشار القانوني للحكومة دراسة الاجراءات القانونية التي يمكن اتخاذها من أجل محاربة ظاهرة الفصل بين النساء والرجال وإقصاء النساء عن حيز الحياة العامة في إسرائيل. ودرست الحكومة إمكان الملاحقة القانونية لرؤساء البلديات الذين يوافقون على رفع لافتات تدعو الى الفصل بين الجنسين في المواصلات والأماكن العامة.

إن موجة التشدد الديني ونمو التيارات الأصولية اليهودية المتزمته، الى محاولات اليمين القومي تقييد الحريات العامة وتكبيل عمل القضاء والحد من نشاطات جمعيات حقوق الانسان، تقدم صورة مختلفة للغاية عما تحاول البروباغندا الرسمية تصويره بأن إسرائيل واحة للحريات والتسامح الديني، وتكشف الوجه الحقيقي لأزمة الصراع على الهوية الذي يقسم المجتمع الإسرائيلي بصورة حادة. ويمكن اضافة هذا الصراع الى الصراع الأثني بين القوميات المختلفة التي يتشكل منها المجتمع الإسرائيلي والى الصراع الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء. والأكيد اليوم أن ليس من حق إسرائيل الحديث عن الأصوليات الإسلامية التي تسيطر على الحياة السياسية في الدول العربية في وقت يبدو جلياً أن إسرائيل نفسها ليست بمنأى عن زمن الأصوليات الدينية والتي حتى الان تدفع النساء ثمنها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يشكل الحريديم نحو 10 في المئة من السكان اليهود، ويبلغ عددهم نحو 600 ألف شخص، يتوزعون كالآتي: 200 ألف في القدس حيث يعيشون في أحياء خاصة بهم مثل حي بني براك ومئة شعاريم، وهناك 50 ألفاً في أشدود، و الآخرون يعيشون في صفد وطبريا وبيت شيمش وفي مستوطنات أخرى في الضفة الغربية.

وأظهر استطلاع للرأي اجري سنة 2006 أن 7 في المئة من اليهود في إسرائيل يعتبرون أنفسهم حريديم، و10 في المئة متدينين اصوليين، و14 في المئة متدينين تقليديين، و25 في المئة يحافظون على التقاليد اليهودية من دون الالتزام بالشعائر، ونحو 44 في المئة علمانيين.