الدراما العربية: أوهام ثقافية

منذ نحو عقدين من السنين ظهرت الدراما التلفزيونية السورية منافسا قويا للدراما المصرية على سوق المشاهد العربي، بعد ان قامت بتوظيف كل ما لدى المنتج السوري من مهارة تجارية، ومن مقومات الفن والإبداع والثقافة، حيث تجمعت كل مكونات العمل الفني الناجح من النص الى الإخراج، مرورا بالتمثيل والتقنيات المختلفة، وقد خرجت الدراما السورية في إطار من الإبهار البصري من خلال تقديم عدد من المسلسلات التي اندرج تصنيفها فيما سمي بـ" الفنتازيا التاريخية " والمقصود اعمالا توحي بان زمنها الممثل، اي الذي وقعت فيه الأحداث انما هو زمان ماض، بل وقد جرى قبل مئات أو آلاف السنين دون ان يتم تحديد مكان أو زمان محدد، وفي ذلك احتيال على الحقيقة التاريخية او هروبا منها حتى لا يتم الالتزام بها، لكن المهم هو ان تلك الأعمال قدمت فكرة سياسية ذات طبيعة قومية، أساسها توحد العرب ضد الغزاة من الأعداء الخارجيين، كما انها صورت بيئة مختلفة عما يعيشه الناس الان، او قدمت صورة غير معتادة لدى العين، فأدهشتها وكسرت من حدة رتابة الدراما المصرية .

الدراما السورية تلك استفادت من حرب الخليج الأولى، ذلك ان اعتمادها على التصوير الخارجي وعلى المجاميع قد كلف الإنتاج كثيرا، وبذلك فان انتاجها كان مغامرة انتاجية بحد ذاته لم يكن التاجر الدمشقي الشاطر ليقدم عليها لولا تحقق السوق سلفا , والسوق هنا هو الخليج الثري بالمال النفطي , وقد تحققت الفرصة بمشاركة سورية في ذلك الحين بتحالف " حفر الباطن " وبذلك فان التحفظ الخليجي السياسي والثقافي على سورية قد تراجع، وان كان الى حين في ذلك الوقت .

ما انتج من مسلسلات سورية خلال عقدين مضيا من السنين هو ما يمكن ان يشكل مادة الدراما السورية الحقيقية، اما بالنسبة للدراما المصرية، فهي كما هو معروف اكثر عراقة وأبعد شأنا، لكنها تقليدية بالأساس وهي تعتمد على قوة النص , والمؤلف فيها اهم من المخرج , وهي تستند في الترويج والتسويق على النجوم او " السوبر ستار " الذي يحمل العمل , ويتلقى جزاء كبيرا من ميزانيته , لذا فان الدراما السورية ظهرت كمنافس للدراما المصرية , وكدراما مختلفة عنها ,فهي اعتمدت الصورة بدلا من النص , وقادها المخرج بدلا من المؤلف، وكانت بطولتها جماعية بدلا من الاعتماد على النجم المتحقق في السينما، وهكذا كان من شأن التنافس بين دراما متحققة واصيلة ودراما ناشئة وشابة ومبدعة ان ظهرت مجموعة من الأعمال الدرامية الكبيرة خلال السنوات الماضية أو خلال عقدي التسعينيات والألفين .

وفي سياق الصراع التجاري ,سعت الدراما المصرية الى " احتواء " منافستها , وكان ذلك متابعا من قبل اعلى مستوى سياسي في البلاد , وفي سنة ما قبل بضع سنوات , وفر قطاع الأنتاج المصري كل امكاناته لانجاح مسلسل " ام كلثوم " , بعد ان تقدمت الدراما السورية في انطلاقتها الأولى التي قادها نجدت انزور , ثم لوحظ سعي المصريين الى ضم النجوم السوريين , ممثلين ومخرجين لأعمالهم , حتى يقوموا بوقف عجلة الأنتاج السوري , وفي عام توقع الكثيرون ان تختفي الدراما السورية , بفعل هذة الأجراءات المصرية , ولكن ظهر فجاة " باب الحارة " ليظهر ان الحضور الدرامي السوري , حتى ولو بعمل فيه مشاكل درامية في البناء والحبك , قد حقق مكانته لدى المشاهد العربي دون رجعة .

طبعا لابد من الإشارة الى ان الدراما التلفزيونية العربية تستثمر شهر رمضان الكريم، لتقدم جل أعمالها، حيث بات من شبه المستحيل، ومن النادر جدا أن يتم عرض مسلسل لأول مرة في وقت آخر غير شهر رمضان، وذلك طبعا لأن وقت المشاهدة يكون نموذجيا، فمعظم الأسر العربية، وبسبب من الصوم تجلس في البيوت اطول فترة ممكنة , خاصة منذ ما بعد الأفطار _ بعد آذان المغرب _ وحتى الفجر تقريبا، وهي تشاهد التلفزيون الذي يتفوق في هذه الفترة على كل منافسيه بمن فيهم الإنترنت.

خلال العامين الماضيين، وبعد ظهور الربيع العربي الذي أخذ في اطاره اهم دولتين عربيتين تنتجان الدراما التلفزيونية: مصر وسورية، توفرت فرصة لدول أخرى ان تقدم دراما تلفزيونية تسد الفراغ الإنتاجي الناجم عن انشغال المصريين والسوريين بإسقاط انظمتهم الداخلية واعادة ترتيب واستقرار الأوضاع الداخلية، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، ولهذا اسبابه بتقديرنا، والتي تعود الى عدم توفر المقومات الأنتاجية في الدول العربية الأخرى مثل العراق والمغرب وتونس ,, ومع ان الخليج ( الكويت والإمارات ) حاولتا الاستفادة من هذا، الاولى عبر انتاج اعمال كويتية والثانية قدمت اعمالا مشتركة تقدم فيها نموذج التعايش بين العرب في الامارات الا ان الفراغ كان ملحوظا. خلال رمضان الحالي، يكاد المرء لا يجد عملا يروي غليله من المتعة البصرية والثقافية، وحتى العمل التاريخي "عمر" يكاد لا يقدم شيئا بعد ان شاهدنا السيرة اكثر من مرة، لذا فان التكرار يظهر جليا، ولا ينفع ان تقدم السيرة مرة عبر خالد ومرة عبر عمر .

السذاجة كلها تظهر في محاولة اظهار بطولة افتراضية من خلال "فرقة ناجي عطا الله" ولو كان الإسرائيليون على هذا القدر من السذاجة لما بقيت أسرائيل حتى اللحظة موجودة، هي بطولة افتراضية تعوض العجز الواقعي، ثم هي تكرار سمج لظهور بات مملا لنجم خفت كثيرا بريقه، وصار على شاكلة الزعماء الذين يرغب الشعب في إسقاطهم بعد ان مل رؤيتهم. ربما لأجل هذا، وربما بهدف البحث عما هو جديد، يذهب المشاهدون الى التركي والمكسيكي، رغم ان طولهما لا يناسب ذائقة " تيك اواي " ، أخيرا يبدو ان الثقافة العربية الان في حالة مخاض، كما هو حال سياستها، وانه لابد من انتظار بعض الوقت حتى يتبين خيط درامي أبيض جديد من خيط درامي رمادي مضى، وبات جزءا من الماضي القريب، لكنه المتلاشي.