النهار 18.1
مصر: "ثورة 25 يناير" انقلبت على ميدانها
والإسلاميون والعسكر يعدّون الطلقات استعداداً للمواجهة
قبل أيام من الذكرى الاولى للثورة المصرية، يبدو الصخب التي تفجر في ميدان التحرير في 25 كانون الثاني 2011، ذكرى بعيدة مرت عليها سنوات. ومع أن "التحريريين" لا يزالون في الميدان، انقلبت الثورة عليهم، وها هم الاسلاميون والعسكر يعدون الطلقات.
تشكل الذكرى السنوية الاولى لـ"ثورة 25 يناير" التي أطاحت نظام الرئيس حسني مبارك وأسقطت عن كاهل المصريين عبئا استمرعقوداً، محطة للقوى لإعادة تقويم الانجازات التي تحققت، وخصوصاً الاخفاقات التي سجلت في الاشهر الـ12 الاخيرة. ويبدو أن كل فريق ينوي احياء الذكرى على طريقته، فقد أعلن المجلس الاعلى للقوات المسلحة 25 كانون الثاني عيداً وطنياً، وهو بلا شك ينوي اغتنام المناسبة لاستعادة موقعه "مدافعا" عن ثورة الايام الـ18، بعد الهوة الكبيرة التي باتت تفصل بينه وبين "شارع" الميدان، كما لحجز موقع له في مصر الجديدة التي بدأت ترتسم معالمها مع ترشيح اسلامي هو الامين العام لحزب الحرية والعدالة سعد الكتاتني لرئاسة مجلس الشعب،وذلك للمرة الاولى منذ عقود.
بيد أن عجقة الحفلات والاحتفالات الرفيعة المستوى، كما الالعاب النارية والعروض الجوية المقررة، لن تكون كافية على ما يبدو للفوز بقلوب المنتقدين لحكم العسكر والذين يخططون بدورهم لإحياء الذكرى باحتجاجات شعبية للمطالبة بسقوط المجلس العسكري الحاكم منذ سقوط مبارك والذي تعامل مذذاك بعنف متزايد مع التظاهرات الشعبية والمعارضين السياسيين.
"العسكر كاذبون"
في 25 كانون الثاني من العام الماضي، بدأ ملايين من المصريين يرددون بفرح "الجيش والشعب يد واحدة"، واستمروا على هذه الحال 18 يوماً انتهت بسقوط رأس النظام. ولكن مع مرور سنة على الثورة، خسر ذلك الشعار صدقيته، وحلت محله شعارات أخرى، منها "العسكر كاذبون"، فيما تعج مواقع التواصل الاجتماعي بأشرطة فيديو تعلن 25 كانون الثاني موعداً لبدء "الثورة الثانية"، وتتهم المجلس العسكري بأنه ليس الا امتداداً لنظام مبارك.
ترسم هاتان الصورتان المتناقضتان لدور العسكر في الثورة المصرية غير المنجزة بعد، حدود النزاع بين "الحرس القديم" الذي كان نافذا في ظل حكم مبارك وما كان يمثله من تركُّز للمصالح، وأولئك الذين يطالبون بانتقال كامل الى حكم مدني والتخلص نهائياً من فلول النظام السابق.
ويستمر هذا النزاع على رغم انتهاء انتخابات مجلس الشعب الذي سيختار جمعية تعيد صوغ دستور البلاد، قبل الانتخابات الرئاسية. وفيما تظهر النتائج شبه النهائية أن جماعة "الاخوان المسلمين" والسلفيين سيسيطرون على المجلس، قد يكون الدور المستقبلي المحتمل للجيش في السياسة المصرية يثير تساؤلات لا تقل حجماً عن المخاوف من تأثير حكومة اسلامية على دولة بحجم مصر وأهميتها الاستراتيجية، كما وضعها الاقتصادي المتردي.
وكان الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر أبدى شكوكاً في هذا الشأن بعد لقائه أركان المجلس العسكري، مرجحاً ألا يتخلى هؤلاء عن كل سلطاتهم لحكومة مدنية جديدة، وأن يسعوا الى الاحتفاظ بقدر ما أمكن من السلطة أطول مدة ممكنة.
ليس هذا ما توقعه شباب الثورة، أو على الاقل ما تمنوه، عندما هللوا للآليات العسكرية التي تقدمت مساء 28 كانون الثاني 2011 على كورنيش النيل، معتبرين أن الجيش سيكون المنقذ من العنف الدموي للشرطة المصرية وأمن الدولة.
شكوك وعداوة
كان هذا خلال الثورة عندما تخلى الجيش عن مبارك الذي خرج من صفوفه، ووقف بدباباته حول ميدان التحرير يسهر على الثوار، ويحرس الثوار من بلطجية النظام السابق ورجال الامن ووزارة الداخلية. الا أن ذلك الوضع لم يدم طويلاً. ففي الاشهر التي تلت اطاحة مبارك، سادت الشكوك بين الفريقين، وتحول الود عداوة حتى صار "بعض من الشعب يكره الجيش وكل قيادته".
في تقريرها الصادر في 22 تشرين الثاني 2011، قالت منظمة "هيومان رايتس ووتش" إن المجلس الاعلى للقوات المسلحة تنكَّر لحقوق الانسان، تحت الذريعة القديمة - الجديدة، وهي ضمان الامن والاستقرار. ففيما كان الغاء قانون الطوارئ من المطالب الرئيسية للثورة، وسع المجلس العسكري نطاق هذا القانون ليشمل تعديات تشمل إقفال الطرق وبث شائعات كاذبة واعاقة حرية العمل، في اشارة الى الاضرابات.
ومنذ شباط الماضي، مثل نحو 1200 مدني أمام محاكم عسكرية. وتعرض ناشطون ومدونون للضرب والتعذيب وأحيلوا على محاكم عسكرية، وبعضهم سجن، بينهم الناشط مايكل نبيل الذي حكم عليه في آذار الماضي بالسجن سنتين لـ"اهانته" العسكر ونشره "معلومات خاطئة" شكك فيها في دور الجيش خلال الثورة. ومع أن المجلس وعد في تشرين الاول بانهاء المحاكمات، الا أنها لا تزال مستمرة، وإن يكن بعضها أحيل على محاكم مدنية.وتواجه نحو 39 منظمة غير حكومية تحقيقات بتهم "الخيانة" و"التآمر" على الامن القومي، وذلك بحجة تلقيها أموالاً أجنبية.
الى ذلك، خضعت متظاهرات لـ"اختبارات العذرية" وتعرض بعضهن للسحل والضرب وتناقلت صورهن وسائل اعلام عالمية. وفي كانون الاول الماضي، استخدم الجيش للمرة الاولى الرصاص الحي ضد موجة من التظاهرات خرجت في تشرين الثاني للاحتجاج على مبادئ دستورية اقترحتها الحكومة تتيح للمجلس حصانة من رقابة البرلمان على موازنة الجيش، كما تمنحه حق التدخل في اختيار جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد للبلاد، وكذلك الاعتراض على مواد فيه. وسقط في تلك المواجهات نحو 40 قتيلاً.
وقبل ذلك، لم تكن أحداث ماسبيرو التي سقط فيها أكثر من 25 قتيلاً واعتبرت أخطر تصعيد للعنف الطائفي في مصر منذ الثورة، نقطة بيضاء في حكم العسكر الذي اتهم بالمسؤولية عنها.
والى هذا السجل غير المتناسق اطلاقاً وشعار"الجيش والشعب يد واحدة"، أبدى المجلس الاعلى تمسكاً بالسلطة، وتحايل على المهل الدستورية، رافضاً تحديد موعد لنقل السلطة ومكتفياً بارجاء هذه الخطوة الى ما بعد الانتخابات الرئاسية، من دون تحديد أي تاريخ.وثمة من ذهب الى الحديث عن دور للجيش في العملية الانتخابية التي شهدتها البلاد، بما فيها المكاسب التي حققتها الاحزاب الاسلامية، ربما لضمان استمرار نفوذه ومصالحه، اضافة الى اعماله والشركات الي أقامها خلال سني حكم مبارك. ففي رأي هؤلاء، أن الجيش قد يسعى الى اعادة نبش "شبح" الاسلاميين الذي شكل طويلاً ورقة في يد نظام مبارك لتقييد الحريات السياسية، وقد حاول فعلاً اعادة استخدامها لضمان كلمة له في صوغ الدستور الجديد، الا أن جهوده أحبطت، أقله حتى الان.
أفق غامض
في أي حال، ليس أفق العلاقة واضحاً بين الجيش والاسلاميين في مصر، وقد تتضح معالمه شيئا فشيئاً مع الاستحقاقات التي تستعد لها مصر، واحدة بعد الاخرى. وفي الانتظار تكثر التكهنات في شأنها.
وقد عزز الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر العارف بشؤون مصر كونه من مهندسي اتفاق كمب ديفيد، فرضيات البعض عن نوع من "التحالف الموقت" بين الجيش والثوار، متوقعاً اتفاقاً لحماية حصانة العسكر وابقائهم في موقعهم لممارسة نفوذهم في الحياة السياسية في مصر، على غرار الدور الذي اضطلع به الجيش في تركيا طويلاً قبل أن ينجح رجب طيب أردوغان في تحجيمه، أو ذلك الذي يواصل الجيش الباكستاني ممارسته.
في أي حال، ستعلن في غضون أيام النتائج الرسمية لانتخابات مجلس الشعب التي شغلت البلاد طوال أشهر. وفيما صار المشهد السياسي المنبثق منها واضحاً، تدخل البلاد قريباً مرحلة حاسمة تحدد مستقبلها. فعندما يجتمع مجلس الشعب العتيد الاثنين المقبل، سيطلب منه تأليف جمعية تأسيسية من مئة عضو لوضع دستور جديد قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في حزيران. وليس خافياً أن مضمون هذا الدستور سينكأ الانقسامات السياسية الحادة في البلاد، بين المجلس العسكري والثوار، كما بينه وبين الاحزاب السياسية المنتخبة حديثاً، وخصوصاً "الاخوان" والسلفيين الذين يدعون الى استراتيجية "خروج آمن" للجنرالات من الحكم، فيما ليس واضحاً ما اذا كان هؤلاء يفكرون في الخروج أصلاً.
ما سيحصل الاربعاء المقبل سيحدد اتجاه المعركة التي ستشهدها مصر لاحقاً، معركة سيكون على الارجح مجلس الشعب، ساحتها. أما عناوينها فتراوح بين صلاحيات مجلس الشعب الجديد والرئيس العتيد والمدى الذي يمكن الذهاب اليه في اقصاء الجنرالات عن السياسة. أما ميدان التحرير فسيبقى بلا شك ساهراً.
وكما قال المحاضر السياسي في جامعة إكسيتير البريطانية عمر عاشور إن"الاخوان المسلمين أقوى من التحريريين، الا أن ميدان التحرير يتمتع بالقدرة على تحقيق الاشياء"، واليه يعود الفضل الاول والاخير في الامل في التغيير الذي يسود المجتمع المصري، رغم على رغم كل شيء.