يقولون عنها مصالحة!!
قبل أكثر من أسبوع، كانت الماكينة الإعلامية والصحافية الفلسطينية تنشر الأخبار التي تتحدث عن قرب الوصول إلى اتفاق وطني يقدم مشروعاً للشراكة بين الفصيلين "فتح" و"حماس"، يتجسد في تشكيل حكومة كفاءات وطنية برئاسة أبو مازن. فجأة انقطع تيار الماكينة الإعلامية كما تنقطع الكهرباء في قطاع غزة معظم الأوقات، وعلى الأرجح أن سبب هذا الانقطاع يعود إلى جملة من العوامل التي من بينها، انتظار ما ستؤول إليه انتخابات الإعادة في مصر لاختيار الرئيس، فضلاً عن تعثرات جوهرية تتعلق بمسائل تمتين وإدامة الوفاق الوطني. في ملف الانتخابات الرئاسية في مصر، ثمة قناعة لدى شريحة عريضة في حماس، أن نتائج الانتخابات وما تقرره تنعكس على وضع الحركة الحمساوية بشكل عام، والأهم أنها تنعكس بقوة على سلطة حماس في القطاع، ونفس ذلك التأثير على وضع "فتح" في حال فاز المرشح أحمد شفيق.
بمعنى، أنه في حال تسلق محمد مرسي قمة الشجرة في مصر بإرادة الناخبين، فإن وضع حماس الوجودي سيتعزز، باعتبارها جزءاً أصيلاً من حركة الإخوان المسلمين، وبالتالي فإنها ستمتلك قوة إضافية قد تؤثر على المزاج العام للحوار الوطني مع "فتح". أما إذا كان الفوز بالسلطة من نصيب أحمد شفيق، الابن الشرعي للنظام السابق، فإن وضع "فتح" سيتأثر هو الآخر، من ناحية دعم مصر شفيق للسلطة والحركة الفتحاوية، خصوصاً أن الأخيرة على مسافة قريبة من شفيق من حيث الحساسية تجاه التيارات الدينية المتنفذة في السلطة. في إطار ذلك، صدر تصريح عن الدكتور محمود الزهار أحد أبرز قيادات حماس في الداخل، قال فيه صراحةً إن الظروف غير ناضجة بعد لإجراء محادثات تتصل بتشكيل حكومة فلسطينية بتوافق وطني، معللاً ذلك بالانتخابات المصرية وتأثيرات الربيع العربي على بعض الدول العربية. ويبدو واضحاً من حديث الزهار أن الحركة الحمساوية خصوصاً فرعها في القطاع، لا تريد استعجال المصالحة الفلسطينية إلى حين انتظار نتائج الانتخابات المصرية، في حين يتبين من التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء إسماعيل هنية ووزير داخليته فتحي حماد حول التصدي للفلتان وعدم التصالح مع العلمانية، أن حماس غير متقبلة للتعايش السلمي مع "فتح" في إطار شراكة حقيقية.
إن كل ما سمعناه عن الاتفاق "الفتحمساوي" هو الدعوة لإجراء انتخابات وترسيم الحكومة الجديدة من أصحاب الكفاءات تحت رعاية ومشورة فتح وحماس، لكن لم نسمع عن ماهية البرنامج السياسي الذي ستحمله الحكومة الجديدة، إلا إذا كان برنامج الرئيس أبو مازن باعتباره أبو الحكومة. أكثر من ذلك، هناك قضية دمج الأجهزة الأمنية، وهذه القضية ملغومة ويمكن أن تنفجر في أي لحظة، وتعتبر من أخطر القضايا التي أدت إلى تعميق الانقسام الفلسطيني ومعه الاقتتال والإطاحة بحركة فتح في قطاع غزة، منتصف حزيران 2007.
حماس ترغب في تأجيل دمج الأجهزة الأمنية إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، في حين ترى فتح ضرورة توحيد تلك الأجهزة بين شطري الوطن من قبل حكومة التوافق الوطني برئاسة أبو مازن، ولعل هذا الموقف الأخير الصادر عن فتح صحيح ومعقول ويعكس الرغبة في مغادرة الصراع والمساعي لضبط وتأهيل الأجهزة الأمنية.
ثم إن من شأن الانتخابات أساساً أن تعيد رسم الخارطة السياسية، فإذا حصلت حماس على إرادة الناخبين، في المقابل سوف تحصل على ثمن التنعم بالسلطة، لكن مع ضرورة احترام التعددية السياسية وعدم احتكار ومصادرة السلطة لنفسها، وهذا لم نلمسه مع الأسف الشديد في المؤسسات الشرطية والعسكرية التابعة لحماس في القطاع.
أضف إلى ذلك، أن هناك طبعاً من يسعى إلى تعطيل الاتفاق الفلسطيني، فإسرائيل لديها موقف من هذا الاتفاق إذا تم، وأيضاً تصر الولايات المتحدة الأميركية والرباعية الدولية على تحديد هوية هذا المولود الفلسطيني، ذلك أن الرباعية ظلت حريصة على عدم إسقاط شروطها الثلاثة لدعم أي حكومة فلسطينية جديدة، وهو ما رفضته حماس كل الوقت.
ولا نظن أن إسرائيل ستقف صامتة على تمرير الاتفاق الفلسطيني إذا توافرت الرغبة الداخلية في الأساس، إذ يدرك الجميع كم هي قيمة الهدية التي قدمتها الفصائل الفلسطينية المتقاتلة لإسرائيل، يوم أن دقت في بعضها البعض، إذ إن هذا الاقتتال أضعف الموقف الفلسطيني الموحد وخدم إسرائيل المستفيدة أولاً وأخيراً. وعلى كل حال، وإن كنا نقف على مقياس التشاؤم تجاه الاتفاق الوطني الذي يفترض به أن يرى النور في العشرين من الجاري، إلا أننا لا نتمنى سوى الخير لنصرة قضيتنا وإتمام المصالحة، لكن من المهم أن نسوق مجموعة العوامل التي قد تؤدي إلى الإطاحة برأس المصالحة. أولاً: ثمة استهلاك كبير للوقت من حساب المصالحة، وهناك قناعة راسخة عند المستفيدين أن إضاعة هذا الوقت قد يضمن لهم تغيراً في اللعبة السياسية لصالحهم. التاريخ يعيد نفسه كما يُقال، ونتذكر مجموع الحوارات التي ابتدأت قبل وحتى الانتخابات التشريعية التي جرت العام 2006، ولم تحقق حكومة توافق وطنية واقفة على أرجلها وصامدة لنصف عام.
ثانياً: بين القيادات الفلسطينية والإرادة الاتفاقية مسافة طويلة، وعدم ثقة تعود لسنين طويلة، والحالة السياسية مفلسة ولا تبشر باتفاق صامد وواضح المعالم. ثمة من يختصر كل المصالحة في ضرورة إجراء الانتخابات، ونسمع طرفاً آخر يرغب في المصالحة باعتبارها محاصصة، دون أن "يلحمها" ببعضها.
ثالثاً: القرار الفلسطيني غير مستقل ولعله أسير للتغيرات الدولية والعربية، فيكفي تأثير مصر وحدها على أجواء المصالحة الفلسطينية الداخلية، فما بالكم بالموقف الأميركي والرباعي الدولي والأوروبي، دون إغفال الموقف والدور الإسرائيلي. رابعاً: لا يوجد في الضفة أو غزة مشروعات تساعد فعلاً على مد حبال المصالحة، ففي الضفة هناك حكومة جديدة عمرها أقل من شهر، بينما في غزة تعمل حماس على تكريس سلطتها وحمسسة القطاع، ويكفي أن وزير الداخلية فتحي حماد خرج إلى الصحافة في ظل ما يسمى أجواء الاتفاق والمصالحة ليصرح بأن لا صلح مع العلمانية ولن يسود حكم سوى الإسلام. في آخر الكلام، وإن حصلت المصالحة فعلاً، فإنها وعلى الأرجح لن تصمد طويلاً وستكون مصالحة مغشوشة وللتعايش المؤقت المبني على المصالح والمحاصصات، طالما كان الشعب في مقدمة من يدفع ثمن الانقسام، ولا غيره أحد يدفع ذلك الثمن. إن الوصول إلى مصالحة حقيقية بإرادة قوية، يتطلب تضافر كافة الجهود المجتمعية لتشكيل قوة ضاغطة على الحركتين فتح وحماس، وعدا ذلك فإننا نتحدث عن مجرد أصحاب أجندات، يطمحون إلى تقوية نفوذهم وزيادة قوتهم بالمال والسلطة.