غسان تويني: "الديك" ما زال يصيح!!

برحيل غسان تويني، فقدت الصحافة العربية أحد أهم مؤسسيها في وقت فقدت الصحافة اللبنانية عميد مدرستها الخاصة والمميزة في كل القارة العربية، إذ لا تزال هذه المدرسة التي ترعرعت في واحة ديمقراطية مختلفة عن جاراتها، وصحيفة النهار التي كان ناشرها ورئيس تحريرها لفترة طويلة كانت تعتبر مدرسة صحافية حاولت جل الصحف اللبنانية والعربية مجاراتها شكلاً ومضموناً، وباختيار الديك الأزرق، صائحاً على رأس وسط الصفحة الأولى، دلالة على يومية الصحيفة من ناحية، وإيقاظ مجتمع يغط في النوم من ناحية ثانية. قبيل رحيله بعقد ونصف العقد، أصدر تويني كتاباً يحتوي على سيرته الذاتية تقريباً، بعنوان "سر المهنة وأسرار أخرى"، وقد تضمن هذا الكتاب، أحد أهم الدروس اللازمة لكل صحافي يريد أن يشق طريقه نحو عالم الصحافة، يقول: "ذات مرة سألت والدي إذا كان في وسعي النزول إلى الجريدة لأتعرف، فوافق وقال إنه ينتظرني صباح الغد في المكتب...

في صباح اليوم التالي دخلت عليه وهو يقرأ الصحف وأعطيته بيد ترتجف أوراقاً مطوية بترتيب كنت صرفت الليل في تحبيرها، وبالكاد ابتسم وهو يسأل: ما هذه؟ قلت مقالة.. ولم أكمل جملتي، وهلع قلبي على الأوراق يمزقها من غير قراءة ويرميها في سلة المهملات! وقبل أن يتسنى لي سؤاله لماذا كان يدعو لويس الحاج ويقول له: هذا غسان يريد أن يصبح صحافياً، لكنه يستعجل الكتابة، دبر له كرسياً وليصحح البروفات، حتى ما أتقن ذلك، تنقله إلى قسم الحوادث والمتفرقات.. ثم نرى بعد ذلك إذا كان بالإمكان أن نستكتبه". كان والده مالك ورئيس تحرير الجريدة، لكن ذلك لم يكن كافياً لكي يعمل نجله في العمل الصحافي، إلاّ بعد تدريبه من خلال "تصحيح البروفات" وهو عمل كان يعتبر ضرورياً لأي مبتدئ، إذ إن تصحيح البروفات، يعني أن يقارن المصحح بين النسخة المكتوبة بخط اليد، والمطبوعة للمرة الأولى قبل أن يتم "لصقها" في ماكيت الصحيفة، ومكان المصحح هو المطبعة وليس أروقة ومكاتب الصحيفة. تسلم تويني رئاسة تحرير صحيفة النهار في كانون الثاني 1948، وفاجأته حرب فلسطين بعد ذلك بأشهر قليلة، مع ذلك، ورغم كونه رئيساً لتحرير الصحيفة، إلاّ أنه يقول في كتابه المشار إليه "أرسلت نفسي إلى جبهة فلسطين ودخلت القدس مع الجيش العربي الأردني في آذار 1948، بلباس جندي وشارة مراسل عربي وراسلت النهار من هناك، حيث تعلمت مع المراسلين الأجانب ما هي صحافة الميدان الحقيقية قبل أن نختبرها في شوارع بيروت".

ولم يتح لغسان تويني مثل هذه التجربة، إلا أثناء حرب الاستنزاف على الحدود المصرية – الإسرائيلية قبل حرب العام 1973، حيث غطى هذه الحرب لصحيفة النهار البيروتية. وقبل ذهابه لتغطية حرب فلسطين –كما يسميها في كتابه- كانت له التجربة الأولى في الاعتقال، وكان ذلك في شباط العام 1948، بسبب اطلاعه على نشرة إخبارية تصدر عن الأمم المتحدة، ولفتت انتباهه في هذه النشرة صورة لضباط لبنانيين وضباط إسرائيليين يتفاوضون في سيارة معاً، وخبر عن الهدنة، في وقت كان رياض الصلح، رئيس الحكومة، ينفي وجود

هدنة "ومَن يتهادنون ومَن يتفاوضون" نشر تويني الصورة، وبدأت الملاحقة، حيث لجأ إلى المطرانية الأرثوذكسية، إلى أن صدر بلاغ رسمي يعلن عن توقيع الهدنة فأسقطت الدعوى ضده حكماً، وطوي الأمر. بعد أكثر من عام على هذه الحادثة، وفي 8 تموز 1949، أعدم زعيم الحزب القومي السوري، انطون سعادة، فكتب تويني مقالة في النهار بعنوان "المجرم الشهيد"، سجن على إثر ذلك لمدة شهرين بعد أن رفض خلالهما التوقيع على طلب عفو، في فترة السجن، أعد مقدمة لأطروحة الدكتوراة في جامعة هارفرد عن "فلسفة الحرية"، أما العام 1951 فقد عاد إلى السجن من جديد، بعد أن كتب مقالة بعنوان "بدنا نوكل، جوعانين" فأضربت الصحافة اللبنانية، وأخلي من السجن، ولكن أعيدت محاكمته وسُجن لشهرين.

لم تكن الصحافة اللبنانية مجرد سلطة رابعة، فقد كانت تخيف السلطات الثلاث، ذلك أن تأثيرها وانتشارها وصدقيتها ومهنيتها جعلت منها مرجعاً لأصحاب القرار، وللرأي العام، ولعبت صحيفة النهار هذا الدور بامتياز، كونها كانت مستقلة فعلاً، مع أن هذه الكلمة "مستقلة" كانت تكتب على معظم الصحف والمجلات، بل وقيل إنها صانعة رؤساء لبنان، ويقال بهذا الصدد، إن وصول الرئيس سليمان فرنجية إلى رئاسة لبنان، لم يكن ممكناً دون موقف تويني وصحيفة النهار، ويقال أيضاً، إن الصحافة اللبنانية علقت على قبول تويني تعيينه وزيراً، بأنها تضحية كبيرة من جانبه، ذلك أن مركزه أعلى من هذا المنصب، غير أن الجدير بالملاحظة، أنه استقال من منصب وزير الإعلام والتربية والتعليم بعد مائة يوم من تقلده المنصب، وجاء في أسباب استقالته، أنه غير قادر على تغيير أوضاع الوزارة!!

ورغم ذلك، تقلد تويني إضافة إلى كونه نائباً لأكثر من مرة في مجلس النواب، منصب السفير لأكثر من مرة، وأهمها سفير لبلاده في الأمم المتحدة، وفي عهده نالت فلسطين موقعها المرموق باعتراف الأمم المتحدة بها وصدرت القرارات الدولية المناصرة للقضية الفلسطينية خاصة "شرعة حقوق الشعب الفلسطيني"، أما بالنسبة لبلاده فقد أنجز إقرار القرار 425 المتضمن حق الشعب اللبناني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وما زال هذا القرار يشكل ركيزة السياسة اللبنانية على المسرح الدولي. ومن بين كافة المناصب الكبيرة التي تقلدها، ظل تويني يحب أن يطلق عليه "الصحافي".. وكفى!!