إسرائيل تسعى لقطع الطريق على المصالحة
فجأة ودون سابق إنذار، يعلن وزير الحرب الإسرائيلي أهود باراك عن إمكانية أن تذهب إسرائيل إلى إجراء انسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية، في محاولة، على ما يبدو لتحقيق أكثر من غاية، منها ما له علاقة بالمعادلة السياسية داخل إسرائيل، ومنها ما له علاقة بمحاولة إسرائيل الإمساك بزمام المبادرة بالقبض على عنق الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ثم تعبيد الطريق أمام محاولاتها الدخول للملعب الإقليمي كلاعب هداف! ما يدعونا إلى قول ذلك هو أن ما صرح به باراك جاء في الاجتماع السنوي لمعهد بحوث الأمن القومي الإسرائيلي، وضمن كلمة خصص معظمها للحديث عن الملف النووي الإيراني، على كل حال ليس هذا هو المهم، المهم هو لماذا جاء هذا الإعلان من قبل باراك بالتحديد، وهو الذي لم يعد صاحب دور مركزي، بعد أن انشق عن حزب العمل، وبعد أن التحقت كاديما برئاسة شاؤول موفاز بحكومة نتنياهو، حيث أصبح وجود باراك وزيرا للدفاع بلا معنى، أي كأن الرجل يريد أن يشير لرئيسه بأن يبقي عليه وزيرا للدفاع، لكن وفي كل الأحوال وأيا تكون دوافع باراك الحقيقية، فإن الفكرة قد تشكل بالون اختبار للجانب الفلسطيني، وقد تبدو أيضا فكرة جدية باتت تطرح نفسها على طاولة الحكومة الإسرائيلية .
لقد حذرنا في مقال سابق بأن التقدم على طريق المصالحة وتشكيل حكومة التوافق سيواجه محاولة إسرائيلية لقطع الطريق من خلال أطلاق مثل هذه البالونات، لأن إسرائيل تدرك بأن المصالحة تقوي الجانب الفلسطيني، وتوفر له لياقة سياسية كافية لمقارعتها، إن كان في المحافل الدولية، أو على الأرض، أي من خلال تجديد المعركة في الأمم المتحدة، وفي الميدان بإطلاق المقاومة الشعبية ضد الاحتلال .
ما زالت إسرائيل إذاً تسعى إلى إجبار الجانب الفلسطيني على دخول ممر تفاوضي إجباري وفق محدداتها هي، فإما هذا وإما ذاك، وقد قال باراك الذي يعرف تماما بأن العملية التفاوضية متوقفة بأن إسرائيل قد تلجأ إلى انسحاب أحادي الجانب في حال فشل المفاوضات .
ولم يفت الرجل أن يشير إلى عوامل القوة لدى إسرائيل التي تؤهلها للقيام بهذه الخطوة والتي تتمثل في أمرين أساسيين هما :
حكومة الوحدة الوطنية التي تتمتع بقاعدة برلمانية مكونة من 94 عضو كنيست، كذلك من واقع ميداني يتمثل في استكمال إسرائيل للطرق الالتفافية اللازمة لتحقيق الانفصال بين المستوطنين والفلسطينيين، وبذلك تفرض إسرائيل "حلا " ميدانيا يمكن اعتباره ترتيبات مؤقتة إلى أن يقتنع الفلسطينيون بالدخول في مفاوضات تستجيب لحالة الأمر الواقع، ولكن بعد أن يتعذر عليهم حتى القدرة على إطلاق المقاومة الشعبية، بسبب إزالة نقاط التماس وحالة الاشتباك الميداني , كما أنهم سيجدون أنفسهم شيئا فشيئا ملزمين بالتعامل مع الحالة كما حدث في قطاع غزة , فإما تجاوز الفواصل وإطلاق الصواريخ على الجانب الإسرائيلي ما وراء الجدار أو ما وراء الطرق الالتفافية أو التسليم واقعيا بالأمر الواقع , ثم إن السلطة الفلسطينية ستجد نفسها أمام واقع ميداني , " متحررة " من الاحتلال , الذي سيبقى أمام احتمال وحيد، وهو أن يتواجد على الجسور مع الأردن، هذا إن رفضت السلطة عقد اتفاق معه على شاكلة اتفاق كوندليزا رايس العام 2005 الذي حدد شكل التواجد الإسرائيلي على معبر رفح من خلال كاميرات المراقبة وعن بعد .
وحتى يمكن لإسرائيل أن تذهب بعيدا بالخروج من النقاط الحدودية مع الأردن، طبعا ستبقى قواتها العسكرية في غور الأردن، لكنها هنا لن تكون بحاجة لفرض حصار على الضفة يشبه حصار غزة، لأن الضفة ليس لها حدود خارجية إلا مع الأردن، وستضغط إسرائيل على السلطة للدخول في مفاوضات، على الأقل، بدافع البحث عن ممر آمن يربط بين غزة والضفة الغربية . مخاطر مثل هذا الانسحاب من جانب واحد تتجاوز الفصل بين غزة والضفة (والتي تبدو كرد إسرائيلي على المصالحة) وليس فرض حالة هدوء ميداني فقط، مع احتفاظ إسرائيل بنصف الضفة الغربية إلى الاحتفاظ بالقدس، وإخراجها من معادلة الصراع. يجب عدم التعامل مع الاقتراح الإسرائيلي وكأنه مقترح عابر أو عديم الأهمية وبسب إطلاقه من قبل وزير لا وزن له _ تقريبا _ في معادلة الحكومة الإسرائيلية الحالية، فهو يظل وزير الأمن، أي أن المقترح يجيء ليحقق أهدافا أمنية ـ سياسية لإسرائيل، ومعروف أن الأهداف الأمنية تحوز على إجماع داخلي عادة، كما أن المقترح ربما يكون بمثابة تنفيذ حتى لو بالإكراه على الجانب الفلسطيني الذي بدا عاجزا من وجهة النظر الإسرائيلية عن الاستجابة للحل الإسرائيلي القائم على أساس اقتسام الضفة الغربية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وكان ذلك جوهر مبادرة سابقة لموفاز، الدولة بحدود مؤقتة .
مع الإدراك بأن إسرائيل بدأت تفكر في رد على الشروع الفلسطيني بتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام الداخلي، فإن الجانب الفلسطيني عليه ومن اجل قطع الطريق على هذا التهديد أن لا يتراجع عن السير قدما في تشكيل حكومة التوافق الوطني، والتحضير لانتخابات عامة تعيد اللحمة وتفعل الوضع الداخلي، وان يترافق ذلك مع إعداد خطة مواجهة فلسطينية للاحتلال وعلى المستويين السياسي والميداني، وعدم التوقف عند حدود ما سيواجه برنامج المصالحة من عقبات داخلية لا تقتصر فقط على تحديد من سيتولى وزارتي المالية والداخلية، بل كذلك كيفية ممارسة الوزراء الجدد لصلاحياتهم، خاصة في غزة، حيث باتت أطقم وزارات السلطة في غزة من كوادر حمساوية بعد حالة الاستنكاف المعروفة، ورغم أن وزارات السلطة، خاصة على صعيدي التعليم والصحة _ أي الوزارات التي تقدم خدمات للناس كانت ترسل ما تحتاجه هذه الوزارات من معدات، إلا أنها لم تكن تدفع أجرة المقرات والأهم لا تدفع مرتبات كوادر حماس من موظفيها، الحديث هنا يدور عن ميزانية شهرية تقدر بأكثر من أربعين مليون دولار، من سيدفعها؟ وزارة مالية حكومة التوافق؟ أم أن حماس ستستمر في دفع رواتب موظفيها؟
وإن حدث هذا ممن سيتلقى هؤلاء الموظفون تعليماتهم من الوزير أم من الحركة؟ أكيد أن الموظف سيمتثل لمن يدفع له مرتبه، ولكن هل سيقبل المانحون بإلحاق فوري لنحو أربعين ألف موظف حمساوي لفاتورة رواتب السلطة، وإذا كان يمكن تمرير بضعة آلاف من هؤلاء ممن هم يعملون كموظفين مدنيين في وزارات الإعلام والثقافة والتعليم والصحة والأوقاف ... الخ، فهل سيقبلون بضم عشرات آلاف موظفي حماس الذين يعملون في أجهزة الأمن الداخلي والشرطة والداخلية , غير المدقق في ملفاتهم الأمنية، بل والذين يعدّ معظمهم ذوي ملفات أمنية؟ واضح أن حكومة التوافق لن تدخل في تفاصيل الملف الداخلي، وقد تكتفي بوضع "عسكر" أبو مازن وموظفيه على معبر رفح، أو حتى فقط بوضع صورته على الجانب الفلسطيني من المعبر، وذلك تجنبا لشيطان التفاصيل، لذلك لابد من مداراة شمعة المصالحة حتى تظل مضيئة، وحتى تصمد في وجه الريح الإسرائيلية العاتية التي تسعى إلى إطفائها مبكرا .